جدلية الهدف والمعنى في الكون والحياة

 الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن:

تشير تقارير الباحثين إلى أن الناس الذين سُئلوا عن سبب تحولهم نحو الإيمان بالخلق يقولون إنهم فعلوا هذا لأنهم يرونه البديل الوحيد للداروينية، التي يرونها لا تُحتمل. «الداروينية» بالنسبة إليهم تعني «الداروينية الاجتماعية»، العشبة القوية القادرة على الحياة في الظل وفي الظروف الصعبة. لكنهم لديهم الكثير من الأسباب التي تدعم رفضهم هذا. في كتاب «نهر خارج عدن، رؤية داروينية للحياة» يلخص ريتشارد داوكينز ما يراه في الرسالة الداروينية(ص.155):في هذا الكون من القوى العمياء والتكرار الفيزيائي، بعض الناس يصيبهم الأذى، بينما آخرون يحالفهم الحظ، وأنت سوف لن تجد فيه أي تناغم أو سبب ولا حتى عدالة. الكون الذي نلاحظه له بالضبط خصائص توحي بعدم وجود أي تصميم أو هدف أو خير أو شر، لا شيء إلا اللاّفرق الأعمى والقاسي». هذا ما وصفه الشاعر هاوسمان:
«لأن الطبيعة حمقاء، وبلا قلب، فهي سوف لن تهتم أبداً ولن تعرف».
«الـ DNA لا تهتم ولا تعرف. هي تماماً كما هي. ونحن نرقص على أنغامها».
ونجد الشيء ذاته في الصفحة الأولى من كتاب «الجين الأناني» The Selfish Gene، فيه يصرح داوكينز Dawkins «نحن لم نعد بحاجة للخرافة عندما نواجه المشاكل العميقة، هل هناك معنى للحياة؟ لأجل منْ نحن؟ ما هو الإنسان؟»هذه الأسئلة كما يقول أجيب عليها بالنفي القاطع والأكيد عام 1859 مع نشر داروين كتابه أصل الأنواع. هذه هي الداوكنزية Dawkinsism وليست الداروينية، ولكن لاتزال يجب النظر إليها باهتمام شديد.
لكي نبدأ، نحن يجب أن نسأل ماذا يعني القول إن الكون لا يحتوي على «الشر ولا على الخير». هذه الفكرة غريبة حتى بيولوجياً، لأن هذا الكون بالفعل يحتوي على العديد من الكائنات الحية بما فيها أنفسنا، وبالنسبة إلى أي كائن حي فإن بعض الأشياء هي شر بالضرورة، وأخرى خيّرة: كل مخلوق له حاجاته الطبيعية الخاصة به، لأجلها تكون بعض الأشياء مفيدة بينما أخرى تكون مؤذية. نحن البشر عندما نسمي شيئاً ما «خيراً» أو «شراً»، فنحن لا نضيف سمات أسطورية غير طبيعية للكون، وإنما فقط نقول الحقائق حول مدى تأثير تلك الأشياء علينا وعلى المخلوقات الأخرى. بالطبع، نوعنا البشري المتميز بالوعي يجعلنا نسجل تلك الحقائق بطريقة خاصة. إنه يجعلنا وبشكل خاص واعين بالاختلافات، خاصة الاختلافات الثقافية. إنه أيضاً يدفعنا للاهتمام بمناقشة الحالات الخلافية، لكنه لا يخلق الحقائق.
لنأت الآن إلى معنى القول إن الكون لا يحتوي «على تصميم أو هدف؟». هذا القول يصعب تصديقه لأن من الواضح أن الكائن البشري الذي هو جزء طبيعي من الكون له أهداف . هذه الهدفية ليست سمة خاصة بالإنسان. إنها سمة نشترك بها حتى مع الحيوانات. بالطبع، ما نستعمل من تخطيط عالي الوعي هو خاص بنا وغير مشترك لأنه تجسيد لقدرة أدمغتنا المتطورة. لكن الهدفية ذاتها – الكفاح المنهجي المستمر لتحقيق غاية معينة – هي بوضوح ليست خاصة بنا. الإنسان حين يحاول الخروج من المآزق التي يمر بها بلا شك يستخدم وسائل مختلفة عن الثعلب أو الجرذ، ويفكر في ذلك بطريقة مختلفة. لكن الكفاح ذاته – كتعبير عن الاهتمام، الجهد المتواصل والمكثف الموجّه نحو تلك الغاية – هو بالتأكيد ينطبق على الكل. الإنسان الذي يشاهد الحيوان، سوف لن يكون لديه أدنى شك بما يعمل، ولا بعلاقته القريبة من كفاحنا. ونفس الشيء ينطبق على البذور التي تنبت تحت الرصيف حين تأخذ طولاً لا يُصدق كونها تنمو حول الرصيف أو خلاله، وربما ترفعه من المكان عند الضرورة. وكما لاحظ أرسطو هناك استمرارية واضحة تنطلق من هدفنا الواعي كلياً وتتجه مباشرة نحو عالم الحياة. أن تعبير داوكينز بالجين الأناني كشيء هادف وقوي إنما يبيّن استحالة وصف عمل الحياة بدون استعمال مثل هذه اللغة.
الهدف ليس اختيارياً
الناس الذين يدّعون أن لا وجود هناك لهدف في العالم الطبيعي يبدو كأنهم يتصورون الهدف كشيء ما متفرد للإنسان – بناء ثقافي اخترعناه، أو ميل لوضع خطة للمادة المحايدة عديمة الاتجاه. هذا الادّعاء قُصد منه معالجة الانقسام بين المادة والذهن بالنظر إليهما كليهما كمادة. مادة من ذلك النوع الميت أو كرات البليارد، لا تلك الحزم من الطاقة والإمكانية عالية التغيّر التي يتعامل معها الفيزيائيون اليوم.
هذا النوع من المادية السطحية أثار آمالا كبيرة في القرن الماضي ولازال يحتضنه العديد من العلماء. لكنه الآن يواجه مصاعب كبيرة حول «مشكلة الوعي»، بالإضافة إلى مشكلة هذا الموقف اللامعقول تجاه الهدف. مفهوم المادة أصبح محيراً كثيراً كمفهوم الذهن وربما أكثر.
لهذا بدأ بعض الناس يرون أن انقسام الذهن/ المادة ربما يتم علاجه أفضل بطريقة مختلفة – ربما بالطريقة التي اقترحها سبينوزا، بألا نسمح لها بالظهور منذ البداية. قد لا يوجد هناك نوعان من الوجود مختلفان جذرياً، الذهن والمادة، وإنما هناك عالم واحد كبير له خصائص كل من الذهن والمادة، ومن ثم يمكن النظر إليه بشكل صحيح من هاتين الزاويتين بدون تناقض. عندئذ سوف لن يكون غريباً لو أن نزعة واحدة تعمل خلال الكل لكي يكون نوعنا من الهدفية الواعية هو فقط جزء واحد من الهدفية الموجهة للطبيعة.
هذا الحديث هو بالطبع خارج الموضة. لكن الإنكار المتزايد الحالي للهدف خارج الحياة الإنسانية هو بالتأكيد لا يعدو أقل من طموح ميتافيزيقي. نحن نشعر أمامه بأقل دهشة فقط لأننا اعتدنا عليه. مع ذلك، المادية الاستبعادية أو الحصرية ليست اكتشافاً علمياً وإنما مذهب فلسفي متطرف، تماماً مثل المثالية الاستبعادية. إنها ليست اقتصادية فكرياً، لأن الاقتصاد المفاهيمي لا يعني استخدام أقل عدد ممكن من المصطلحات، وإنما استخدام المصطلح الذي يعمل فقط، وفيه الأفكار توضح حقاً البيانات في السؤال. البرهان على حلاوة الأطعمة يحصل عند الأكل. من الصحيح أن مفهوم الهدف لم يُستخدم في الفيزياء، ولكن الفيزياء ليس من مهمتها محاولة توضيح الحياة. إذا كان هدفنا هو فهم العالم الذي يتضمن أنفسنا والكائنات الأخرى بأفكارنا، سنحتاج إلى مفاهيم توضح هذا. السلوك الهادف الذي يُعرّف ككفاح لتحقيق الأهداف، ليس مجرد شيء بنيناه نحن كأناس وإنما شيء ما عالمي بين الكائنات الأرضية. لكي نبتكر في هذا المجال بالتأكيد يتوجب علينا أن نكون كائنات غير مرتبطة بأشكال أخرى للحياة، مخلوقات نستمد قدراتنا من مصدر خارجي. تلك كانت فكرة ديكارت عندما اعتبر الأذهان أرواحاً خالصة غير مرتبطة بالأجسام وأن الحيوانات اللاإنسانية هي مجرد مكائن لاواعية. لكن هذا لا ينسجم مع تفكيرنا اليوم.
الاستفادة القصوى من أذهاننا المتطورة

لذا فإن الهدف والقيم كالخير والشر ليست ألواناً تعسفية اصطبغ بها العالم بفعل أنانيتنا. هي نمت في ذلك العالم وهي مظهر باطني له – إنها خصائص طبيعية ناشئة، وأشكال تظهر حالما يصبح سكان العالم معقدين لدرجة تدفعهم للحاجة لها. مثلما لا وجود هناك لخصائص طيران لحين بدء شيء ما بالطيران، ولا وجود لخصائص موسيقية حتى يبدأ شيء ما بإنتاج الموسيقى، كذلك أساليب الحياة هذه لا توجد في عالم ميت. لكن ذلك لا يجعلها أقل واقعية أو أقل طبيعية. الأهداف والقيم هي أيضاً خصائص للتطور الذي يصبح باستمرار أكثر تعقيداً عندما تقوم به الكائنات ذاتها. هذه الخصائص لا تستلزم تدّخلاً ما ورائياً غامضاً. لكي نجد للكون معنى لا يتطلب أن نفك شفرة رسالة إضافية مبهمة مختفية وراءه، وإنما ببساطة أن نجد بعض الاستمرارية بين أشكاله وأشكال حياتنا الخاصة وهي استمرارية تكفي لتؤكد أن وجودنا هنا له معنى. المسألة هي ليس أن هذا العالم ينتمي لنا، بل أننا ننتمي إليه. لا يجب علينا الاعتقاد أنه صُمم لفائدتنا، أو أننا نستطيع فهمه كلياً. نحن نحتاج فقط لنراه كما رُتّب بطريقة تجعل وجودنا هنا مفهوماً لنا. وبما أننا حقاً جزء من هذا العالم، فهذا ليس مشروعاً سخيفاً. إنه يوضح لماذا نميل طبيعياً للاستجابة لهذا العالم بمزيج من الحذر والثقة والاحترام الذي أثبت ملاءمته لأسلافنا عبر دهور طويلة من التجارب الصعبة.
بعض الناس يرى أننا يجب أن نهمل كل هذه الميول الطبيعية لأنها جزء من طبيعتنا الإنسانية المتطورة. ولكن طالما نحن أناس ولا نستطيع أن نصبح شيئاً آخر، من الصعب رؤية ما يحققه إهمال نزعتنا الطبيعية. فمثلاً، طبيعتنا الإنسانية هي أيضاً مصدر لإيماننا المدهش بأن الناس حولنا هم كائنات واعية، ليسوا روبوتات بلا وعي، لدينا نزعة للشعور الرقيق والتعاوني تجاه بعضهم. طبيعتنا الإنسانية المتطورة هي أيضاً مصدر لعقيدتنا بأن العالم المادي لايزال هناك عندما ندير ظهرنا له، ولعادتنا الغريبة في الوثوق بشهادة الناس الآخرين (بما فيهم شهادة العلماء) ما لم يكن هناك بعض السبب الخاص لعدم الوثوق بهذا. باختصار، ميولنا الطبيعية تزودنا فقط بصندوق ألعاب نمتلكه للحياة وللتفكير الدائم. بالطبع، نحن أحياناً نحتاج لرفض الأفكار التي تأتي طبيعياً لنا. لكننا لا نرفضها فقط لأنها تاتي من طبيعتنا التطورية. نحن نرفضها لانها تتصادم مع أفكار أخرى تنال دعماً أفضل. ونحن دائماً نحاول تسوية الأفكار المتضادة ذات الإسناد الجيد. في الحقيقة، هذه التسوية هي مهمة مركزية لحياتنا الفكرية لأننا أيضاً لدينا حاجة طبيعية لإحداث التكامل في شخصيتنا. نحن لا نستطيع تجاوز عملية التسوية هذه عبر رفض أفكار معينة فقط لكونها طبيعية.
الحلم بالصوابية وعدم الخطأ
من اللافت أن هذا النوع من الجدال المشكك نال التشجيع خصيصاً في الموقف من الميتافيزيقا، كما لو أن الميتافيزيقا هي الجزء الوحيد غير الموثوق به من الإمكانية الذهنية للإنسان. فمثلاً، داروين شرح في سيرته الشخصية كيف تطورت رؤاه حول الميتافيزيقا، أوضح بأنه كان لايزال متأثراً بـ «الصعوبة الشديدة أو استحالة تصور هذا الكون الهائل والمثير، بما فيه الإنسان… كنتيجة لحظ أعمى أو ضرورة».
هذه الفكرة المثبطة قادت داروين ليبقى محايداً أو لاأدرياً. لكن هذا الشك بالتأكيد دفعه ليذهب أبعد. هو فقد الثقة بكامل سلسلة التعليل التي وصل بواسطتها لهذا الاستنتاج. في الحقيقة، جميع الأفكار بما فيها الفكر العلمي الذي سبّب له الوسواس، كلها تأتي من نفس المصدر التطوري، شكواه حول ذلك المصدر تشير إلى أن هناك طريقة من التجلّي تتجاوز مثل هذه العقبات. ماذا يمكن أن يكون ذلك الوحي؟ هذه بالتأكيد رؤية ميتافيزيقية مشتقة من التفكير الأفلاطوني الماقبل التطوري، فكرة وجود خط ساخن مباشر للمعرفة متوفر فقط للمخلوقات المتسامية روحياً. ولكن كما أوضح هو ذاته، أن هذا مجرد حلم. نحن الآن نعرف أننا لسنا ماكينة مصممة معرفياً لهدف وإنما مخلوقات مركبة اكتسبنا قدراتنا الفكرية على طول الطريق كجزء من قدراتنا العامة في الحياة. هذا لا يعني أن أذهاننا فقط مزيج بلا فائدة، تشكلت عشوائياً بمرور الجينات الثقافية. لكن قوة أذهاننا هذه محدودة. إنها تجد من الصعب فهم بعض أنواع الأسئلة دون أخرى. هي تجد الأسئلة حول الهدف وعلاقتنا بالعالم هي بالذات صعبة. وهناك عدد قليل جداً من الأسئلة في العلوم أو في أي مكان آخر يمكن لأذهاننا أن تعطينا الجواب النهائي لها.
إذاً ماذا يجب أن نعمل حول هذه النزعات الطموحة الغريبة لأذهاننا، مثل الميول التيليلوجية (الإيمان بالمصمم العظيم) التي لاحظها داروين أعلاه؟ سيمون كونوي، كونه طرح الجواب الاختزالي الأنيق علمياً حول الهدف العظيم الشائع اليوم، يلاحظ:
«مع ذلك، هناك شكوك مؤذية ربما ناتجة عن بعض إخفاقات الخلايا العصبية، كمية إضافية من الناقل العصبي أو أي شيء آخر، لكن الحقيقة تبقى وهي أن الإنسان لديه إحساس ساحق بالهدف. من الغريب أننا كمخلوقات نرتاح حين نجد أنفسنا ضمن قالب تيليلوجي»(حل الحياة، إنسان حتمي في كون وحيد، 2003، ص313).
يقول كونوي: نحن نحتاج أن نسأل لماذا هذا، وما إذا كانت فكرة التيلوس هذه فكرة زائدة (ص313). وكما يشير، مثل هذه الأشياء من المألوف حالياً تُوضّح بأسلوب من السيكولوجيا التطورية، عبر القول إن العادات الثيولوجية تبهج الناس، تمنحهم ميزة اختيارية عبر منع اليأس. لكن هذه الأجوبة حتى لو كانت دليلاً كافياً لذلك، ستبقى بعيدة عن إصابة الهدف. الطريقة التي يخطئون بها ربما تُوضّح بشكل أفضل عبر مثال مشابه. افرض أن العلماء يدرسون الحياة ويتساءلون كيف يفسرون ممارسة الموسيقا، التي يجدونها بلا معنى. باتباع العقائد السائدة هم يقررون أن الموسيقا تبهج الناس، وهم يستشهدون ببحث يدعم استنتاجهم. ولكن بأي معنى هم لديهم الأن توضيح كاف للموسيقا؟
المشكلة هي أن تحليلاتهم توفر فقط سياق خارجي أو إطار سببي يمكن أن تحدث في داخله الظاهرة المحيرة وليس تحليلاً داخلياً. إنها لا تبيّن أبداً ما تفعله الموسيقا في حياة الناس. إذا كان هؤلاء الباحثون تشجعوا بنجاحهم واستمروا في التحقيق بنشاطات إنسانية أخرى محيرة، مثل كرة القدم، هم يُحتمل أن يعطوا نفس التوضيح. وهكذا، كل هذه الفعاليات في الحقيقة لها نفس الوظيفة والتي تعني أن كل واحدة منها يمكن دائماً أن تُستبدل بأي فعالية أخرى. هل هناك خطأ هنا؟ نعم. عندما نسأل حول مسألة ومعنى الفعالية مثل الموسيقا، نحن نريد فهم ما الذي يجعلها تستحق الأداء، وما مكانها في الحياة.
هذا السؤال يبرز من الداخل. نحن نستعمل مثال الموسيقا لأن دورها حقاً يحير الناس. ليس من السهل توضيح ما تعمله الموسيقا لنا بعبارات واضحة. لكن لا أحد يفترض أن الموسيقا لا تعمل أي شيء أو أنها تافهة ولا نحتاج للتعامل معها باهتمام. المشكلة هي أنها مهمة جداً وأنها منخرطة في حياتنا لدرجة لا يمكننا بسهولة رؤيتها ككل.
كيف نقارن هذا مع السؤال حول ميلنا الطبيعي نحو التيليلوجي؟ لسوء الحظ، تلك القضية متداخلة في تاريخ الصراع بين العلماء والكنائس. تلك الخلفية أنتجت موقفاً نظر فيه بعض العلماء للقضية كواحدة من الحروب القبلية – معركة في حربهم الباردة. في كتابه (The Goldilocks Enigma ) يشير بول ديفس إلى أن الفيزيائي الكبير ريتشارد فيمان قال إن «التراكم العظيم لفهم الكيفية التي يتصرف بها العالم الفيزيائي يقنع المرء فقط أن هذا السلوك له نوع من اللامعنى «. ستيفن وينبيرغ يأخذ نفساً عميقاً مفجراً هذه العاطفة إلى أقصاها، معلناً أنه «كلما كان الكون قابلاً أكثر للفهم، كلما بدا بلا معنى». وكما يلاحظ ديفس، وينبيرغ كتب هذا التعليق ليس بسبب أنه ينكر وجود هدف للكون، وإنما لأنه يرى أن له هدفاً. مع ذلك، الشيء الشاذ هنا هو الاستنتاج بأن وينبيرغ ينطلق من عدم المعنى هذا. الشيء الوحيد الذي يبهجه في هذا المشهد البارد وحيث كل القيم المعيارية ثبت لامعناها، هي حقيقة أن الناس لازالوا يبحثون في الفيزياء الفلكية:
«إذا لم يكن هناك عزاء في ثمار بحثنا، فهناك على الأقل بعض العزاء في البحث ذاته. الرجال والنساء لا يريحون أنفسهم بحكايا الآلهة والعمالقة… هم يبنون تلسكوبات وساتيلايت ومصاعد ويجلسون خلف طاولاتهم لساعات لامتناهية يفسرون معنى البيانات التي يجمعونها.. الجهد لفهم الكون هو واحد من الأشياء القليلة التي ترفع حياة الإنسان قليلاً فوق مستوى الكوميديا، وتعطيه بعض نعمة المأساة».(ستيفن وينبيرغ، الدقائق الثلاث الأولى، 1977، ص155).
ولكن إذا كان الكون أوضح سلفاً أنه بلا معنى، كيف يكون هناك معنى لدراسة عمله؟ ما هذا المعنى الذي يبحث عنه الباحثون؟ لماذا هم يدرسون العلوم؟ من الواضح، أن وينبيرغ وافق على افتراض جاك موند بأن الحقيقة العلمية تبقى باعتبارها المثال الوحيد المتبقي بعد المحرقة العامة لكل القيم الأخرى، وأن العلم لايزال يعطي معنى لكون الصدفة الخالصة. ديفس يشير إلى أن هذا لا يعمل: «عمل العلوم يعني اكتشاف ما يجري في الكون — الكون حول ماذا. إذا لم يكن حول أي شيء فلن يكون هناك سبب لإجراء التحقيق العلمي في المقام الأول.. لذا نحن ربما نقلب قول وينبيرغ ونقول إنه كلما بدا الكون بلا معنى، كلما بدا أيضاً غير قابل للفهم» The Goldilocks Enigma,2006,p.18)).
هذه هي الصعوبة حول طبيعة الفهم تبرز من داخل العلم نفسه، وليس كنقد له من جانب جماعة معزولة. إنها مشكلة أثارها أخيراً الكثير من العلماء المرموقين. العديد منهم، مثل ديفس، قام بهذا بالإشارة إلى الصدفة الملاحظة التي لاحظها الفيزيائيون أخيراً في ظروف فيزيائية جيدة للكون ذاته والتي تخلق إمكانية وجود حياة ذكية (أو أي نوع من الحياة). إن عدم احتمالية ملائمة الكون للحياة بالصدفة هي مذهلة جداً لدرجة تجعل من السخف الحديث عن وجودنا نتيجة الحظ، كما يقول فريمان دايسون. صراحة نحن لسنا مخلوقات غريبة كما اعتقد جاكس مونو، كوننا منعزلين في كون لا نستطيع توقع فهمه. وكما يشير دايسون: «أنا لا أشعر كغريب في هذا الكون. كلما فحصت هذا الكون كثيراً ودرست تفاصيل هندسته، كلما وجدت المزيد من الدليل على أن الكون لا بد أن يكون بمعنى ما قد عرف أننا قادمون». (Disturbing the universe,1979,p.250).
هذا التفكير لا يستلزم بالضرورة تبنّي أي موقف معين. إنه ببساطة يصرح بأن المجال الميتافيزيقي مرة أخرى مفتوح للعلماء لنقاشات جادة. أساساً، إنه يشير نحو مجموعة من الفلاسفة مثل سبينوزا، أرسطو، كانط. لكن هناك الكثير من الاتجاهات الأخرى يمكن السير بها في هذا التفكير أكثر. ديفس كونه وصف صدفة الكون التي جعلت الحياة ممكنة وقيّم مختلف التفسيرات يستنتج:
«يبدو لي أن هناك مشروعاً حقيقياً للأشياء – الكون هو «حول» شيء ما. لكني بنفس المقدار لا يمكنني إلقاء كل المشاكل، أو أهمل كل الأفكار الأخرى وأصرّح بأن الوجود في النهاية هو أسطورة.. أنا أعتقد حقاً أن الحياة والذهن محفوران بعمق في نسيج الكون، ربما من خلال مبدأ الحياة المعتم» (The Goldilocks Enigma, pp.302-303).
ونفس الشيء في البيولوجي يرى سمون كونوي انتشار الالتقاء التطوري (مختلف المسارات التطورية لنفس الخصائص كالعيون والسيقان والأجنحة) تبيّن مجموعة أخرى من المصادفة مماثلة لتلك المكتشفة في الفيزياء، وهي أيضاً يصعب اعتبارها كمجرد صدفة . هو يقول فكرة أن التطور عشوائي ونادي قمار، إنما أسيء فهمها كثيراً. الالتقاء التطوري يكشف عن نظام واضح وأيضاً عن نوع لافت للإبداعية:
«لكل هذه الوفرة والنزعة في التطور هناك قيود، الالتقاء هو حتمي، مع ذلك ومن المفارقة أن النتيجة الصافية ليست عودة عقيمة للأفكار البالية، وإنما هناك نزعة للتعقيدية المتزايدة. بعض الكوسمولوجيين يرغبون التأمل بأن الكون مصمم ليكون وطن الحياة»، ويضيف له بعض البيولوجيين: نعم ، وليس فقط ذلك وإنما نحن نمتلك فكرة ماهرة حول ما كان يُحتمل الحدوث (Life’s solutions, pp.21 and 113). بالتأكيد نأمل أنه بدلاً من أن يشن العلماء حربهم الباردة، يستطيعون في الحقيقة دفع هذا النوع من الحوار قدماً. ‏

التاريخ: الثلاثاء11-10-2020

رقم العدد : 986

آخر الأخبار
أسواق حلب.. معاناة نتيجة الظروف المعيشية الصعبة مهارات التواصل.. بين التعلم والأخلاق "تربية حلب": 42 ألف طالب وطالبة في انطلاق تصفيات "تحدي القراءة العربية" درعا.. رؤى فنية لتحسين البنية التحتية للكهرباء طرطوس.. الاطلاع على واقع مياه الشرب بمدينة بانياس وريفها "الصحة": دعم الولادات الطبيعية والحد من العمليات القيصرية المستشار الألماني الجديد يحذر ترامب من التدخل في سياسة بلاده الشرع: لقاءات باريس إيجابية وتميزت برغبة صادقة في تعزيز التعاون فريق "ملهم".. يزرعون الخير ليثمر محبة وفرحاً.. أبو شعر لـ"الثورة": نعمل بصمت والهدف تضميد الجراح وإح... "الصليب الأحمر": ملتزمون بمواصلة الدعم الإنساني ‏في ‏سوريا ‏ "جامعتنا أجمل" .. حملة نظافة في تجمع كليات درعا سيئول وواشنطن وطوكيو تتفق على الرد بحزم على استفزازات بيونغ يانغ تنفيذي الصحفيين يجتمع مع فرع اللاذقية درعا.. تبرع بالدم لدعم مرضى التلاسيميا غارات عنيفة على النبطية .. ولبنان يدعو لوقف الاعتداءات الإسرائيلية "زراعة القنيطرة".. دعم الفلاحين بالمياه والمستلزمات للزراعات الصيفية فلاحو درعا يطالبون بتخفيض أسعار الكهرباء توفير الأسمدة والمحروقات أول عملية وشم واسعة النطاق للخيول الأصيلة في دير الزور إدلب: في أول جولة له بالمحافظة.. وزير الاقتصاد يطَّلع على الواقع الصناعي والتجاري مرتبطة بسمعة الطبيب السوري.. كيف يمكننا الاستثمار في السياحة العلاجية