محمد جمال:
لم تكن الضربة الأمريكية التي استهدفت منشآت إيران النووية في نطنز وفوردو وأصفهان مجرد عمل عسكري محدود، بل جاءت كترجمة حادة لما يمكن تسميته بـ”عقيدة ترامب الاستباقية”، حيث تتقدم الضربات على الدبلوماسية، وتُرسم خطوط الحرب تحت مسمى الحوار.
ففي الوقت الذي بدا فيه أن واشنطن تُمهل طهران أسبوعين للتفكير في شروط اتفاق نووي جديد، كانت القاذفات الأمريكية من طراز B2 تحلق في صمت باتجاه أهدافها، في مشهد لا يخلو من رمزية سياسية: فرصة التفاوض تُمنح ظاهرياً، أما القرار الحقيقي فمحسوم مسبقاً.
الضربة جاءت بعد أن استنفدت واشنطن – حسب روايتها – فرص التفاهم، وبعد أن تبين لها أن إيران تقترب بشكل خطير من العتبة النووية، سواء من حيث مخزون اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، أو من حيث تطور أجهزة الطرد المركزي الحديثة، وعليه، فإن “الضربة المحدودة” كانت تهدف – كما أوضح بيان ترامب – إلى كسر العمود الفقري للمشروع النووي الإيراني دون الانجرار إلى حرب شاملة.
لكن الواقع أثبت أن الحسابات النظرية شيء، ونتائج الميدان شيء آخر.
فقد استوعبت إيران الهجمة الأولى، وردّت بعشرات الصواريخ الباليستية والفرط صوتية، استهدفت مدناً ومواقع حيوية في قلب إسرائيل، في تل أبيب وحيفا وبئر السبع، ما دفع كثيرون لإعادة تقييم المشهد: هل كانت الضربة الأمريكية فعلاً محدودة؟ أم إنها فتحت الباب على مصراعيه أمام حرب إقليمية شاملة؟
الرئيس ترامب، في سعيه لتحقيق توازن بين عدم التورط الطويل في الشرق الأوسط وبين الحفاظ على أمن إسرائيل واحتواء إيران، وجد نفسه في منتصف طريق محفوف بالمخاطر، فهو لا يريد حرباً طويلة تثقل الداخل الأمريكي، لكنه في ذات الوقت لا يستطيع أن يبدو ضعيفاً أمام طهران.
الأهداف بين واشنطن وتل أبيب ليست متطابقة… أمريكا تريد نزع سلاح إيران النووي، سواء بالتراضي أو بالقوة، أما إسرائيل، فتذهب إلى أبعد من ذلك: إنها تسعى إلى ضرب القدرة الصاروخية الإيرانية، وربما إسقاط النظام نفسه، وهنا يكمن التباين الاستراتيجي في نظرة الطرفين للحرب وحدودها.
في الداخل الأمريكي، لم يكن التوافق حول الدخول في حرب جديدة متاحاً، لذا حاول ترامب تأمين الغطاء الداخلي والدولي مسبقاً، عبر الحديث عن فرص تفاوض ضائعة، وتجاوزات إيرانية متكررة، لكن حتى مع هذا التمهيد، تبقى الضربات محفوفة بالمخاطر، الرد الإيراني قد لا يقتصر على الجبهة الإسرائيلية، بل قد يمتد إلى القوات الأمريكية في العراق وسوريا، أو عبر الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان وبذلك، تدخل أمريكا بشكل غير مباشر في مواجهة متعددة الجبهات.
أما اقتصادياً، فإن المشهد لا يقل تعقيداً. أسعار النفط ترتفع، ومضيق هرمز يلوح في الأفق كورقة ضغط إيرانية ثقيلة، وإذا ما تطورت الأمور إلى استهداف البنى التحتية الخليجية أو إشعال حرب استنزاف، فإن كل سيناريوهات الحرب ستكون مفتوحة.
إننا أمام لحظة مفصلية في تاريخ المنطقة. ليست مجرد ضربة، بل إعادة رسم للحدود بين الدبلوماسية والقوة، بين الردع والتصعيد، ما بعد الضربة لن يكون كما قبلها، فإما أن تنجح واشنطن في فرض معادلتها التفاوضية عبر القوة، أو تفتح على نفسها وعلى المنطقة باباً لحرب قد لا يستطيع أحد إغلاقه بسهولة.