الملحق الثقافي:جيهان رافع :
من باب الغرفة دخانه الكثيف وصوت سعاله ينتشران كعطر انتظاره وحركات الشوق المملة تنخفض مع رأسه لتطل على الشارع ثم تبتعد، فيبدو كسحابة دخانه كضباب صباح ماطر. نور الذي صادف عيد ميلاده الخامس والأربعين يوم قدومها إلى مركز التجميل المقابل للهفته، هي قصدت العمل وتقصد ضياعه القدر، مبعثر ميلاده. هذا جسده المتوسط الطول يقف عند النافذة بشعره المبعثر ووجهه المأخوذ إلى عنوة الدهشة. يضع يداً في جيب سرواله القصير حيث يتهدل فوق خصره قميص قديم من القطن ويحمل بيده الثانية ريشة وسيجارة معاً. وكلما نظر إلى الساعة المنبه المنسي على طاولته الصغيرة في أقصى زاوية في الغرفة تراكم عليه الغبار، زادت رؤيته للوقت من نفاد صبره فيقوم ببل الريشة بشكل وهمي في الهواء وهي الممتنعة في هذا الصباح عن حمل أي لون، ليبدأ بالرسم على الشباك شكل امرأة، والسيجارة بين أصابعه مشتعلة، فيسحب من السيجارة ويظهر جليّاً ارتباكه كيف سيصل لعقب السيجارة دون أن يخطئ بينها وبين الريشة. فيظهر وجهه الحنطي المربع ترتسم بأسفله لحية خفيفة بدا عليها الشيب. يبتسم ساخراً وينظر إلى الريشة فينفث في وجهها سحب سيجارته ووهم انتظاره وبقايا صبره، فيوزع النظرات على لوحاته المرمية هنا وهناك وأعقاب سجائره على الأرض ثم تتسمر عيناه على لوحة لامرأة ما زال خياله يصنع ملامحها عاجزاً عن إزالتها من رأس أولوياته في ترتيب لوحاته لافتتاح المعرض الأول له.
«لن تأتي اليوم» غمغم بتلك الكلمات حيث كانت هي تكمل روايتها خلف قضبان الواقع هاربةً إلى الأحلام وخيالها المغبر، تصنع لقاءً خالياً من الحقيقة بشاب يحفر رسمه على صفحات قلبها وينحت من وجودها في حياته صخرة حب لا تهزها عواصف الملل والاعتياد. كانت تأتي إليه كل مساء تتسلل من ثقوب أبواب طلاقها التي أوصدتها عليها قسوة الأحكام المسبقة الألم. لكن هذا الصباح قررت أن تلتقيه على سطور مشمسة ماطرة الإحساس عطشة لبلل الحبّ. تركت طفليها في أزقة وحدتها وافتعلت لها حكاية تفرغ بها صمتاً تهافت على صراخه العابرين، وفي كل مقطع تجعل بطلها يحمل ريشته كانت تذوب مع ألوانه في ماء نبضها.
تأنقت ورتبت فوضى ربيعها، وذهبت لمعرض الرسم المشترك بين ثلاثة فنانين،.وعند أول لوحة لامرأة تشبهها تسمرت عيناها على نظرات نور المسرفة بدهشة المصادفة الممعنة بعذوبة اللحظة، ومع اقتراب اللهفة تلقت اتصال ابنتها المريضة وجاء ابنه الصغير بصوته الجميل (بابا) ليهزّ حلمه فيستيقظ على وجوب بقائهما بين قضبان الأقلام.
التاريخ: الثلاثاء21-4-2020
رقم العدد : 995