ثورة أون لاين _ فؤاد مسعد:
نفهم أن شركة الإنتاج عادة ما تضع ميزانية محددة لأي عمل درامي تريد الإقدام على تنفيذه ، ونفهم أن هناك شركات تقوم بضغط هذه الميزانية وممارسة كل أشكال التقشف لتصل إلى الرقم الأقل في التكلفة النهائية ، وعلى ضوء ذلك توضع الخطة الإنتاجية ، وربما على أساسه يُكتب النص أصلاً ، بمعنى أن المنتج يوعز للكاتب تخفيف المشاهد التي تحتاج إلى ديكورات واكسسوارات مكلفة أو تحتاج إلى سفر خارج دمشق أو إلى خارج البلد ، وفي المسلسل الذي تدور أحداثه ضمن البيئة الشامية على سبيل المثال غالباً ما يتم تحديد أيام معينة للتصوير الخارجي الذي يتطلب بساتين أو جبالا أو تصوير معارك والتي كثيراً ما تبدو في العديد من المسلسلات كمعارك (أفلام الكرتون) بسبب كلفتها الإنتاجية الخجولة وإصرار المنتج على تصويرها لأنها تبقى عنصراً مشوقاً (برأيه) فتخرج هزيلة لأنها صورت بأقل الأثمان ، هذه الصفة العامة التي توضع ضمن الخطة من شأنها أن تسيء للعمل حتى قبل أن تنطلق عمليات تصويره ليمسي النص معقماً إنتاجياً ، فما بالكم بعد التصوير عندما يبدأ المنتج بدفع المال ، ما كمية الاختصارات التي تطال مواقع التصوير واستبدالها بالحوارات التي تصور في أماكن ثابتة ومكررة (منزل ، مقهى ، حارة ..) ؟.
ربما هي واحدة من الأسباب الرئيسية التي تدعو أصحاب العمل إلى جعل مسلسلهم حبيس جدران البيوت والاستديو ، فيحددون المنازل التي سيتم التصوير فيها (عددها محدد بدقة) كما يتم تحديد المشاهد التي ستُنفذ داخل الاستديو ، ويمكن للمشاهد ملاحظة هذا الأمر من خلال متابعة حلقات أي مسلسل تدور أحداثه في البيئة الشامية ، بحيث يبقى التصوير الخارجي بحده الأدنى ، ولكن من الأهمية بمكان الخروج بالعمل إلى الاماكن الحقيقية التي لاتزال موجودة ويمكن التصوير فيها ليشعر المشاهد أن رئتي العمل تتنفسان الهواء بعيداً عن الجدران المغلقة والحارة والساحة التي تبدو ديكوراً جامداً لا يشبه الحياة التي تتنفسها أحجار حارات دمشق القديمة.
تُرى ما الذي سيخسره المنتج إن اقتحمت كاميرا مسلسله فضاءات أخرى قد تمنح عمله مصداقية أكبر وتجعله أقرب إلى الناس ، خاصة أن اليوم هناك محاولات للخروج من جلباب النمط الذي ساد لسنوات وكرس نظرة معينة على صعيد الشكل لهذه الأعمال ، ومن الفضاءات المكانية التي يمكن أن تصلح لتحكي عن فترة تاريخية قريبة وأن تحرّض خيال الكاتب للدخول في عوالم جديدة وهامة وتخلق خطوطاً درامية تقدم حالة من الغنى ، المدرسة والجامعة ومحطة القطارات والسيارات القديمة في الشارع .. فهناك العديد من الخيارات التي يمكن استثمارها وتوظيفها لتكون من صلب العمل الدرامي وتجري فيها أحداث هامة وتخرج بذلك عن المألوف إلى أماكن يشعر من يراها بنبض الحياة ، خاصة أن هناك أماكن يمكن توليفها لتماشي الفترة الزمنية التي تجري فيها أحداث المسلسل ، وأسطع مثال على ذلك المستشفى الذي كان فضاءً مكانياً مشتركاً بين مسلسلين دارت أحداث كل منهما في البيئة الشامية ويعرضان ضمن الموسم الدرامي الحالي (بروكار ، سوق الحرير) ، وقد تم توظيف المستشفى ليكون له حضور على مستوى المكان والحدث ، وبالتالي سعى مخرج كل من العملين إلى إيجاد فضاء جديد ظهر في العديد من المشاهد وكان له دور فاعل وحضور مؤثر ، محققاً حالة من التنوع عبر الأماكن التي اعتادت العين رؤيتها في هذه الأعمال.
مما لا شك فيه أن أي عنصر في العمل الفني يلعب دوراً هاماً في نجاحه أو فشله ، ومن المجحف الاهتمام بعناصر على حساب أخرى لأن ذلك مهلكة للعمل ككل ، ومن هنا جاءت أهمية المكان ، شأنه شأن الإكسسوار والديكور والمكياج والإضاءة .. وأذكر أعمالاً صورت زمن ذروة انتعاش الدراما التلفزيونية السورية كان يتم فيها اختيار أفضل المبدعين لبناء الديكور أو تصميمه ، وكانت الشركات الإنتاجية تتبارى على استحواذ الماكيير الأبرع ، حتى أن هناك من كان يستقدم ماكييرية معروفين من ايران لضمان عنصر الجودة في عمل يتطلب قدرات معينة على صعيد المكياج ، وبالتالي كانت كافة العناصر المكوّنة للعمل الدرامي تلقى العناية لإدراك حقيقة دور كل منها في إنجاح العمل ، ولكن أماتزال هذه القناعة موجودة حتى اليوم أم بدأت تتبخر في الهواء وسط شح الإمكانيات وتقليص الميزانيات؟..