الملحق الثقافي:لبانة علي الجندي:
“النمط” يحمل معانٍي كثيرة في التقليد الخطابي. فالبعض ينظر إلى النمط على أنه مسألة وضوح. وبهذا يكون النمط الجيد هو ما تسهل معالجته من قبل القرّاء. ويرى آخرون أن النمط مسألة ملاءمة. وبهذا يكون النمط الجيد هو ما يتوقعه القراء. ويوصف أحياناً كتعبير عن الذات، أو كاستجابة للجمهور، وأحياناً أخرى كقِوام للحقيقة، أو ببساطة، تجميلي.
ثم تطور مفهوم النمط مَجازيّاً إلى كيفية استخدامنا للّغة بطريقة تفاعلية، أو استباقية ضمن شروط محددة، ولأهداف محددة. وهذا يتطلب من المستخدم الإلمام بالموارد اللغوية المتاحة، وكذلك المقبولة اجتماعياً، من الناحيتين اللغوية، والعملية في منظومة تشكيل وتفسير النصوص، والتفاعل التواصلي. فالنمط إذن هو نتيجة الخيار من مجموعة الوسائط اللغوية المناسبة لنقل رسالة معينة بشكل مؤثر. وهو بعد ينتمي إلى مقياس التعبير، أكثر منه إلى المحتوى.
ثم ينتقل الكاتب خوان هيرنانديز في كتابه “الأنماط اللغوية الاجتماعية” إلى التوسع أكثر في هذا المفهوم الهام في دراسة اللّسانيات عموماً. فيدخل في أهمية المؤثرات والتأثير في تشكيل النمط. وهنا يعرض أهمية الحالة التي يرد بها النمط للتعبير المؤثر على الجمهور، والذي يعتبر أساسياً في تشكيل النمط. ولا بد من التنويه إلى أهمية السياق الذي يرد فيه النمط، إضافة إلى المتحدث، الذي يعتبر الناقل الأمين للمضمون.
إذن، الأطراف الثلاثة الهامة في أي حديث يكون متكاملاً: الحالة، والسياق، والمتحدث الذي ينقل الحالة، ثم السياق الذي ترد به لكي يتلقاها الجمهور بشكل تفاعلي، أو تؤثر به.
نماذج تبدل الأنماط اللغوية:
-نظرية مركزية الحالة:
“كانت الدوافع الرئيسية لتطور النظرية اللّسانية الاجتماعية هي:
1- الاستياء بين العديد من اللّسانيين في الستينات من القرن العشرين، من مثل شيشرون، وتشومسكي، مما أدى إلى رد فعل ضدهم.
2- ظهور الثورة الكمية.
3-إعادة تعريف، وإعادة صياغة علم اللّهجات التقليدية الريفية، الذي أصبح الآن علم اللهجات الاجتماعية، والحضرية.
4- الاهتمام المتزايد بين علماء اللغة بعلم الاجتماع، وعلم الأجناس البشرية، وعلم الإنسان التطبيقي، ومجالاتهم.
إعداد الجمهور:
إن علم النفس الاجتماعي اللغوي هو ميدان دراسة علم اللغة الاجتماعي، ويتناول الجوانب الاجتماعية-النفسية التي تؤثر على استخدام اللغة في التفاعل المباشر، خاصة المواقف تجاه أنواع اللغة، واستخدام المتحدثين لتقنيات التواصل، لإقامة العلاقات الاجتماعية، والهوية. وأي اعتبار حول كيف، ولماذا، يكتسب الأفراد اللغة، ويستخدمونها، ويتفاعلون معها، يتطلب حكماً، الظواهر النفسية الاجتماعية؛ كالمواقف الإنسانية، والدوافع، والهويات والنوايا.
نظرية الجمهور والاستجابة:
يقوم المتحدثون بإعداد النمط الذي سيتبعونه على أساس الجمهور، وحساسيته. ويرى “بيل” بأن اختيار النمط كفعل يعتمد أساساً على استجابة الحضور، أو غياب الجمهور: “فعملية إعداد النمط على أساس جماهيري، أو غير جماهيري هو تبدّل “حسّاس”. يحدث استجابة لتغيير الموقف غير اللغوي. إذن، يعتبر إعداد الجمهور جزءاً من النظرية الجدليّة للّغة.
المهمة الخطابية:
إن التبدّل النمطي، حسب الموضوع، أو الخلفية، يستمد معناه، واتجاهه من الارتباط الأساسي للموضوع، أو الخلفية، مع أفراد الجمهور النموذجيين.
نظرية مركزية السياق:
يبدو الإلمام باللغة (أو إتقان الاصطلاحية المتعددة) بفعل الموقف، حيث تندرج المتغيرات الاجتماعية، والنمطية، على مدى سلسلة من صعوبات اللغة أو (تعقيداتها)، بين التبسيط، والتفصيل: فالمواقف الأكثر معرفة تتطلب لغة أكثر وضوحاً؛ وبالعكس، فالأقل معرفة تحتاج إلى لغة مبسّطة أكثر؛ وبالوصول، أو التعرّض إلى مزيد من التنوّع في المواقف يؤمّن للمتحدّث خبرة من أجل تباين أوسع، أو أضيق بين المتحادثين.
بديهيات الاصطلاحية:
إذا انتشرت سمة لغوية عبر الفئات الاجتماعية، ومواقف، أو لغة اصطلاحية تواصليّة، فإن الفئات الاجتماعية التي تتمتع بقدرٍ أكبر من الوصول إلى المواقف، والاصطلاحية، والتي يتكرر حدوث تلك السمات فيها، سوف تبدي استخداماً متكرراً لها في اللهجات الاجتماعية.
نظرية مركزية المتحدّث:
تمثل الأنماط قدرتنا على شغل مواقع اجتماعية مختلفة، لأن تبدل النمط يعتبر أداة قوية للأداء اللغوي، ولاتخاذ الموقف الخطابي، وإظهار الشخصية. أيضاً تؤكد النظريات البنائية الاجتماعية الحديثة، والمتعددة الأبعاد والأوجه حول التباين اللغوي على قدرة تبدل النمط البنائي الاجتماعي على صياغة المعنى في الحوار: يقوم الناس باختيارات نمطية، استراتيجية شخصية لاقتراح تصنيف اجتماعي وعرض موقع اجتماعي محدد في المجتمع.
الخطاب السياسي:
هو واحد من أكثر الأنماط المضبوطة في سياقات الأداء الجماهيري. وفي الواقع، الخطاب السياسي لا يختلف عن أوساط الأحاديث العامة، ولكن السياسيين يحتاجون فعلاً لأن يُظهروا أنهم يفهمون حقاً، ويتعاطفون مع اهتمامات دائرة جمهورهم من خلال تجسيد أدائهم اللغوي.
وختاماً، تقوم اللّسانيات الاجتماعية، كمجموعة صيغ صرفية، بعملية مستمرة لإعادة صياغة نظرية، وإعادة تعريف منهجي، بالتوافق مع ظهور نظرية المعرفة، وتطور طرق العمل الميداني الجديدة، وتقنيات جمع البيانات، والتحليل الإحصائي- في حالة النظريات الكمية.
وكما توقّع روبينز برؤية ثاقبة، فإن “كل اللغات البشرية بتفاصيلها المذهلة، وتأثيرها الواسع على العقل البشري، لا تزال تمثل ميداناً غير محدود للبحث المنهجي، والدراسة المنظّمة”. وهناك ميادين فكرية جديدة، وطرق مبتكرة من أجل تحقيقها: إذ يجب على النظرية اللغوية مواكبة التقدم المنهجي والتقني.
التاريخ: الثلاثاء21-7-2020
رقم العدد :1006