بعد أن هُمشت ثقافة القراءة لصالح كل ما هو مرئي أصبحت الكتب مهملة يأكلها غبار الوقت.. بينما الصورة التي دعمتها الأجهزة الرقمية ببرامج ذكية للحركة، والألوان، والمؤثرات البصرية فقد وصلت إلى حد الإبهار الذي يستلب مَنْ يشاهد.
وها هي السينما، وهي المستفيد الأكبر من التقنيات الحديثة، فقد استطاعت بفضل ذلك أن تحقق قفزات مذهلة في الإخراج، وتركيب الصورة بحيث أصبحت المتعة البصرية أمراً يصعب مقاومته. أما شركات إنتاج الأفلام فقد تكاثرت، وغدت مواقعها الإلكترونية متاحة بوفرة، ومتعة المشاهدة التي تزخر بكل الصور، والأفكار لا تنقطع في كل الأوقات.
فماذا ستفعل تلك الحروف السوداء ومنها الكلمات وهي تستقر فوق مساحة الصفحات البيضاء وتتنافس مع صورة تضج بالحركة والألوان؟.. لكن منا مَنْ يفضل إعمال خياله من خلال الكلمة المقروءة على أن تصادره الصورة بما تؤطره له.. فكم وكم من الروايات، والأعمال الأدبية التي حولتها السينما إلى أفلام، أو فعل ذلك التلفزيون، وظلت الرواية المكتوبة أكثر إمتاعاً، وقدرة على إثارة المخيلة لتشع بما هو أشد بريقاً، وتوهجاً في النفس.
ومقابل ذلك فإن مبادرات تشجع على العودة إلى الكتاب المقروء تتناثر هنا وهناك كما الأزهار في حقول الربيع.. إلا أن واحدة منها استرعت اهتمامي، وربما بعضاً من استيائي بآنٍ معاً، وهي مسابقة للشباب، والصغار للقراءة المشفوعة بمبلغ مالي يعتبر كبيراً نسبياً كمكافأة لمن يقرأ، ويلخص.. والفكرة بحد ذاتها في القراءة والتلخيص مقبولة وجيدة، لكن المبدأ في المكافأة المجزية مقابل ذلك يحتاج إلى إعادة نظر.. فمَنْ سيقرأ من أجل المال لن يستجيب لمضمون ما يقرؤه بمقدار ما سيستجيب لإغراء المال.. فإذا كان الهدف ثقافياً بالدرجة الأولى فإن طرح إغراءات مالية للصغار بمبالغ تكاد تشكل من وجهة نظرهم ثروة لهم، فإن الفائدة المرجوة من قراءة كتاب أو أكثر، تكاد لا تبرر هدم قيمة تربوية، وهي أن تحصيل العلم، والمعرفة، وإثراء الثقافة هو هدف بحد ذاته وليس ذلك مشروطاً بتحصيل المال.
وإذا كانت المكافآت المادية من أموال نقدية، وهدايا عينية ذات تأثير مشجع فلا بأس بها، ولكن على أن تكون رمزية، وألا تكون هي الحافز والدافع، بل إنه الزاد الثقافي، والكنز المعرفي الهدف من وراء المكافأة.. ولو أنها في حالات خاصة قد تفعل فعلها المؤثر في ربط المتسابق بالكتاب إذا ما تذوق ما يقرأ، وتفاعل معه، وعثر من خلاله على بوصلته التي فقدها بسبب الأفلام، والألعاب، وشعر أن تجربته تلك كانت إضافة له كونه لم يعد منها بمكسب واحدٍ فقطـ، وإنما هو الفوز بما يؤسس لعلاقة وثيقة مع فكرة الكتاب، لاسيما إذا كان الكتاب قد أجابه على أسئلته، أو وجد صورته بين سطوره.
ومن ناحية أخرى فمسابقات القراءة لها أثرها الإيجابي كجهة مرجعية في توجيه هؤلاء نحو أفضل الإصدارات، وليست القراءة غير الهادفة، ولا الموجهة التي لا تضيف إلا قليلاً.. كما ليست لما يُعثر عليه مصادفة، أو ما أصبح يتوفر بكثرة من الكتب الرديئة.. ولعل الظروف الصعبة التي تفرض نفسها على أحوال البلاد والعباد تصبح دافعاً يشجع على القراءة التي تهدئ من روع الأوقات بعيداً عن المنهاج الدراسي، وكأنه الهروب من واقع مأزوم نحو تجارب جديدة تنطوي عليها صفحات الروايات، وكتب التراث، والدراسات، كما القصة، والشعر، وغيرها.
وبالمقابل لو كانت الأسر تهتم بثقافة أبنائها، وإثراء تجربتهم الفكرية والحياتية إلى جانب تعليمهم في المدارس، لما اضطرت بعض الجهات سواء الخاصة أو الرسمية لابتكار مثل هذه المبادرات لخلق حالة ثقافية عامة، أو لتغيير ثقافة مجتمعية قائمة.. ومنها بإغراءاته المادية ما هو كورقة اليانصيب التي قد تصيب، أو تخيب، وهي تضع أمراً مقابل آخر، فالفوز ليس لكل المتسابقين بالطبع بل للأفضل من بينهم.
فما لم تتغير النظرة إلى الكتاب من خلال هذه المسابقات، وما تحمله من مكافآت، واعتباره بذاته متعة، ووسيلة للاطلاع، وإطلاق الخيال.. كما القراءة متعة للقراءة بحد ذاتها، وتتحول إلى عادة تجذب إلى المزيد منها، فسيظل الأمر لا يتجاوز ثقافة هشة، ومعرفة ضحلة مهما تزايدت أرقام الأصفار إلى جانب أرقام المكافآت.
إضاءات- لينـــــا كيــــــــــلاني