الملحق الثقافي:ناظم مهنا:
قدَّم عالم النفس الاجتماعي إريك فروم تصوّراته من أجل إنقاذ الإنسان من كارثة سيكولوجية واقتصادية قائمة أو محتملة، رسم من خلالها ملامح للإنسان الجديد الذي يستعيد جوهره وكينونته، ويصلح أنْ يكون نقطة انطلاق لكلِّ مجتمع يصبو لتغيير واقعه وبناء إنسان مغاير. يحدد ذلك بأربعة شروط، إذا توافرت كان التغيير ممكناً، وهي:
أولاً: المعاناة، مع الوعي بأننا نعاني. ثانياً: الكشف عن الأصل في الحالة السيئة التي من أجلها نعاني. ثالثاً: أنْ نتبين أنَّ ثمة مخرجاً من حالتنا تلك. رابعاً: أنْ نقبل فكرة أنه لكي نتجاوز تلك الحالة، يجب علينا أنْ نتبع طرائق معينة في المعيشة، وأنْ نغيِّر ممارساتنا الحياتية.
استخلص فروم هذه الشروط من تعاليم بوذا، وهي تبدو بسيطة إلى درجة أنها تكاد تفقد أهميتها من شدة بساطتها! لكن، على الرغم من ذلك، لو تأملناها، لأدركنا أهميتها القصوى في تغيير ذواتنا، وإلى جانب ذلك فإنّها تأتي من مفكِّر إنسانيِّ النزوعِ وناقدٍ كبير من أعلام المدرسة النقدية في فرانكفورت، عاش حياته متميزاً في مدرسة التحليل النفسي، وناقداً نزيهاً لأستاذه فرويد، وظل طوال حياته يقرع جرس الإنذار، محذراً من الكارثة التي تحدق بالبشرية، والتي تعيشها على المستوى الكوني. ولأن هدف فروم دائماً هو الإنسان وإصلاح حاله، وفق الشروط الأربعة، تميَّز خطابه دائماً بالوضوح الشديد، خلافاً لأقرانه من جمعية التحليل النفسي، ثم جماعة فرانكفورت الشهيرة بنظريتها النقدية.
دعا فروم بإلحاحٍ لإظهار إنسان الكينونة، الإنسان الممتلئ، إنسان الجوهر الذي يتميَّز بروح الإيجاب، إنسان لا تمتلكه الأشياء، ولا يُستلب أو يرتهن لآلية الاغتراب والتشيؤ والأنانية التي يفرزها النظام الرأسمالي.
وفق علم النفس التحليلي، إنَّ كلَّ إنسان يعاني، وقلّما يوجد سعداء على الدوام! فالإنسانُ حيوانٌ شقيٌّ بوعيه وبذاكرته، ووعيه لهذا الشقاء يجعله أكثر قلقاً، وأكثر توقاً للخلاص والوصول إلى سعادة الوعي.
إذن، الإنسان الذي يرومه فروم، هو الذي يعي إنسانيته، على أنَّها قيمة كبرى لا يجوز تبخيسها أو الانتقاص منها، ويعي موقعه في “الآن وهنا”. وبما أنَّ الوعيَ شرطٌ أساسيٌّ للتغيير، فإن الثقافة تفرض نفسها ضرورةً ملحة لتنمية الوعي وتحصينه.
وبالعودة إلى شروط فروم، أتوقَّف عند الشرط الثالث الذي يبدو لي كبير الأهمية، لأنَّه يلامس حالنا هنا، فهو يحثُّنا على الأمل وعلى الثقة بالذات، وعلى ضرورة النظر الثاقب إلى الذات والتاريخ والعالم من حولنا. ونؤكد ذلك بقول الشاعر العربي القديم الذي نكرره في أحاديثنا اليومية: “ما أصعب العيش لولا فسحة الأمل”. إن فروم عدوٌّ لدودٌ لليأس والعدمية الفلسفية، ويرى أنّ العدمية من مآسي الإنسان منذ بدأ يعي ذاته، ومنذ فجر الوعي الإنساني، وعلى الرغم من تشريحه الممنهج للعدوانية التدميرية في الجنس البشري، وهو صاحب الكتاب الشهير، والأكثر أهمية في القرن العشرين: “تشريح التدميرية البشرية”، وكتابه الآخر في الباب نفسه “الهروب من الحرية”، وكتب أخرى كثيرة من هذا النوع، فإنه يدعو الإنسان ليتجاوز واقعه، ويكتشف إنسانيته، ويصحح مسيرته الحياتية.
يلتقي فروم في نظرته هذه مع أرنست بلوخ ومع كريشنا مورتي ومع كارل يونغ، إلا أن الأخيرين بسبب صوفيتهما الإنسانية، يريان أنَّ المعضلة البشرية تكمن في الفرد البشري وفي الثقافة الفردية، وحلّ المعضلة يبدأ في الأفراد، عن طريق تبدل نفسي للأفراد. في حين يرى فروم أن المرض في المجتمعات وفي السيكولوجيا الثقافية، والإصلاح يكون اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً بما يقود إلى نمط حياة جديدة.
يقول كريشنا مورتي: “إن معضلة العالم هي معضلة الفرد ذاته”، وفي نظره أنَّ تعديل أو تبديل الهياكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقانونية، ليس إلا إصلاح للسطح لا يجدي كثيراً، لأنه لا يباشر في تحويل جذري لقلوب وأرواح الناس. أما يونغ فيقول: “بقدر ما تكون التجمعات مجرد تكومات أو تكتّلات للأفراد، كذلك تكون معضلاتهم بالقياس نفسه تكومات أو تكتلات للمعضلات الفردية”. ويرى أنَّ معضلات من هذا النوع لا تعرف الحل، بأي شكل من الأشكال، عن طريق تشريع أو تبديل في الاسم أو العنوان، وليس من سبيل إلى حلها إلا من خلال تبدل شامل للموقف أو للوضع. وتُجمع هذه القامات الفكرية الكبيرة على أن ثمة خللاً في الوضع الإنساني، ولا بد من وجود أمل في حلِّ هذا الخلل.
التاريخ: الثلاثاء15-9-2020
رقم العدد :1013