يعرف اللبنانيون أكثر من غيرهم مدى صعوبة التفاوض مع العدو الصهيوني بشكل مباشر أو غير مباشر، فهذا العدو يملك من الحنكة والدهاء ما لا يملكه أحد، ولا يفهم إلا بمنطق القوة التي طالما استخدمها لتكريس كيانه، وهذا ما تعرفه المقاومة ممثلة بالثنائي (أمل – حزب الله).
لكن لماذا جاء هذا التفاوض في هذا التوقيت بالذات؟ فمن جهة يريد نتنياهو (المتهم بالفساد) استثمار أي تقدم في هذا المجال في الانتخابات الرابعة له، وكذلك ترامب الذي يريد أن يحقق أي إنجاز في زار (خلع السراويل) العربانية للتطبيع ليمدد ولايته للمرة الثانية، وخصوصاً أن لبنان يعيش على حافة الانهيار اقتصادياً وأمنياً، ومن الطبيعي أن يعتقد البعض أنه موسم جيد للتنازل مقابل ثروة (مجهولة) في أعماق البحر ربما تكون وربما لا تكون.
لقد استغرقت الصفحة ونصف الصفحة من اتفاق الإطار بين يدي رئيس مجلس النواب نحو عشر سنوات وسلمها واضحة إلى رئيس الجمهورية ليكمل مهمة التفاوض غير المباشر حسب صلاحياته، لكن السؤال هنا هو: لماذا تم تفخيخ الوفد الذي من المقرر أن يكون عسكرياً خالصاً بعناصر مدنية لا دور لها الآن؟ فالمهمة محددة وهي ترسيم الحدود البحرية دون التطرق إلى الحدود البرية المعتدى عليها، وهل يريد أحد محاكاة وفد العدو إرضائياً.. أم أن وراء الأكمة ما وراءها وما الفائدة من ذلك؟ وهل كان على لبنان المقاوم أن يقدم هدايا مجانية للعدو بالشكل قبل أن يقدم غيرها في المضمون؟
والجواب: ربما هناك من يريد ذلك لتجنب الضغوط الأميركية الخانقة ويعمل على تبريدها أو للحصول على هبات ما تؤجل الانهيار الكامل، لكن المقاومة ممثلة بثنائي (أمل- حزب الله) بإصداره بيان منتصف الليل الموجه إلى من شكل الوفد المفخخ كان عالي السقف وحاسماً في رفض شكل الوفد، الأمر الذي أوصل الرسالة (البيان) إلى نتنياهو وترامب وبالطبع إلى الدول المهرولة للتطبيع وفوت الفرصة على المناورة التي كادت تنجح فيها (إسرائيل) وتستثمرها بتسويقها لصالح نتنياهو وكأنها وضعت لبنان على سكة التطبيع.
إن البيان يطرح سؤالاً عن أهدافه بعد فشل المساعي السياسية والاتصالات لتعديل الوفد التفاوضي، وهو هنا إعلان تحفظ استباقيّ لبدء التفاوض، له أهداف عدة ليس بينها رفع الغطاء، لكنه بدد أي فرضيات وتفسيرات لتشكيلة الوفد، الأمر الذي يمكن أن تبني عليه (إسرائيل) لاحقاً.. فهي ليست مستعجلة في قضية الثروة النفطية أو الغازية، وتستطيع أن تبدأ باستخراجها من مكامن أخرى متنازع عليها، وكل همها هو التفاوض، والرسالة الثانية هي لبيئة المقاومة بأن مثل هذه المفاوضات لن تؤدي إلى أي علاقات، وبالتوازي للفريق المناوئ، بأن المقاومة وبيئتها يدعمان تفاوضاً يؤدي لتثبيت الحقوق اللبنانية وانتزاعها، والمقاومة لن تسمح بالذهاب إلى أبعد من ذلك.
لقد انتهت الجلسة الأولى، وكان أداء الوفد اللبناني جيداً كبداية وضماناً مضاعفاً بوجه أي محاولة توريط بالانزلاق إلى مطبات يرسمها الأميركي ويرغبها ويطلبها الإسرائيلي ويسعى إليها، وهو ضمان معاكس لتجنيب الوفد مزيداً من الضغوط والمطالبات، في ظل وجود موقف بهذه القوة وهذا الوضوح، من فريق يعرف الأميركي والإسرائيلي أن التفاوض معه صار هدفاً، بعد أن هدّدت المقاومة بقصف أي محاولة لاستخراج النفط أو الغاز في الحقول اللبنانية.
وإن غداً لناظره قريب
معاً على الطريق- د. عبد الحميد دشتي