الملحق الثقافي:حامد العبد :
لطالما نظر الناس بعين الدهشة منذ القدم إلى تلك المَلكة السحرية لدى الشعراء والفنانين وغيرهم من المبدعين، التي مكّنتهم من الإتيان بروائعهم الأدبية والفنية، حيث وقف الناس حائرين أمامها، الأمر الذي جعلهم يطرحون الكثير من التساؤلات حولها.. من أين أتت؟ وهل يستطيع أيّ إنسان امتلاكها؟ بالطبع لم يكن من المستغرب في بادئ الأمر أن تُعزا هذه الملكة السحرية إلى قوى غيبية وخفية عند جميع الشعوب القديمة. ففي الحضارة الإغريقية نُسبت هذه الملكة إلى ربّات الشعر أو آلهة جبل الأولمب، لدرجة أن أفلاطون نفسه اعتبر أن كل الشعراء المجيدين من شعراء الملاحم وشعراء الغناء، لا يؤلفون شعرهم الجميل عن فن أو حَذَق، ولكن لأنه يُوحى لهم، ومن هنا فإنه ينفي الخاصية الإنسانية للشعر. وفي الحضارة العربية وخاصة كلما عدنا بالزمن إلى الوراء، كان يُعتقد أن لكل شاعر شيطان شعرٍ أو أكثر خاص به يوحي إليه البديعَ من الشعر.. فكانت المقولة الشهيرة: (من كان شيطانه أمرد، كان شعره أجود). والشواهد الطريفة على ذلك كثيرة، كقول الأعشى عن شيطانه الذي كان يسميه (مسحَل):
وما كنت ذا قول ولكن حسبتني
إذا مِسْحَل يبري لي القول أنطقُ
ولعل هذا ما جعل مفهوم الشعر ينال حينها قدراً لا بأس به من سوء الظن عند الكثيرين، حيث أصبح المصطلح قريناً لعمليات المخادعة والأقاويل الكاذبة والباطلة. ولكن ما هو سر تلك المَلكة التي تدعى بالخيال، وما هي العلاقة بين الخيالي والواقعي، وكيف يتشكل الخيال؟
البصيرة الثاقبة
في البداية علينا أن نعلم أنه لا يوجد إنسان غير قادر على التخيل، فالتخيل هو القدرة الأولية التي تجعل الإدراك الإنساني ممكناً، ولكن موضوعنا هنا هو الخيال الإبداعي الخلاق.
من المعروف أن الإنسان المبدع بشكل عام هو إنسان يمتلك بصيرة ثاقبة، تمكِّنه من النفاذ إلى أعماق الأشياء التي قد يمر عليها الآخرون مرور الكرام، و يمتلك رؤية عميقة تجعله قادراً على ملاحظة الصلات الخفية بين الأشياء، إن كانت في الطبيعة أم في الحياة الاجتماعية للمحيطين به، وخلال حياته اليومية العادية (حتى منذ نعومة أظفاره وقبل أن يتشكل وعيه بالكامل) يقوم بالتقاط الكثير من الصور الحسية وملاحظة الشخصيات والمواقف المحيطة به، وتسجيل عدد لا يحصى من الذكريات والانطباعات، التي تُحفظ جميعها أو بقاياها أو حتى أشلاؤها، إن كان في عقله الواعي أم في عقله الباطني أو تكون مطمورة في ذاته المبدعة، بدرجات مختلفة من الشدة والوضوح ولسنوات تطول أو تقصر، حيث يشكل هذا المخزون الهائل من تلك الصور الحسية المادة الأولية للخيال. وما يفعله المبدع عندما يقوم بالتخيل، هو إعادة تمثُّل هذه الصور أو بقاياها واسترجاعها، عبر عمليات معقدة من التفكيك والهدم والاقتطاع والمحي والصّهر، ومن ثمَّ البناء والدمج واللصق وإعادة تشكيلٍ وابتكارٍ من جديد، ليَخرجَ له منتجاً إبداعياً جديداً.
إذن لا يمكننا القول إن الخيال هو الإتيان بشيء جديد من العدم (في الحقيقة لا شيء يأتي من العدم لا في الواقع ولا في الخيال) كما يتوهم البعض، فحورية البحر مثلاً أو الحصان المجنح كلها أشكال خيالية جُمّعت أجزاؤها من مجموعة صور لمخلوقات أخرى، وبالتالي كما يقول البعض بأن الإنسان عندما يتخيل فإنه يتوهم أنه يتخيل أو أنه (يتخيل أنه يتخيل). والدليل على ذلك أن الأطفال المكفوفين منذ الولادة لا يمكنهم تخيل الألوان، وكذلك الأطفال الصم منذ الولادة لا يمكنهم تخيل النغمات الموسيقية.
ولكن أليس استرجاع الصور الحسية القديمة، وإعادة تمثلها هو التذكر أو الذاكرة كما قد يظن البعض؟
بالطبع لا، فالذاكرة تكون محدودة في زمن محدد ومكان محدد، ومرتبطة بالماضي حصراً، أما التخيل فمتحرر من قيود الزمان والمكان ينهل من حيث شاء، كما أن الذاكرة تستمد موضوعاتها من العالم المحسوس المادي، بينما موضوعات التخيل لا تمت للعالم المادي إلا من حيث الاستفادة منها كما ذكرنا سابقاً. والأهم من ذلك كله، هو أن الوعي هو الذي يتحكم في الذاكرة، في حين أن اللاوعي هو الذي يتحكم في التخيل، وهنا مربط الفرس كما يقولون، لأن مصنع الخيال إن جاز التعبير موجود في اللاوعي وليس في الوعي، وهو المسؤول عن إنتاج المنتجات المبتكرة الجديدة بناءً على رغبة الذات الواعية للمبدع، ليقدمها من جديد لوعي المبدع الذي بدوره يختار منها ما يناسبه، كأن تتفتَّق مخيلة الروائي بعدة نهايات للرواية الواحدة ويختار المبدع واحدة منها فقط.
في عالم الأدب لا يمكن للأديب أن ينجز روائعه الأدبية من دون الخيال، فهو الذي يصنع تصورات عمله الأدبي قبل البدء بكتابته ويفتح له الآفاق، كما أنه يسهم في إشادة عمارة النص وبث الروح فيه. ومن المعروف أن النصوص الأدبية تُقسم إلى قسمين: نصوص شعرية ونصوص نثرية، والتي بدورها أي النصوص النثرية تقسم إلى نصوص سردية خيالية (fiction) كالقصة والرواية والمسرحية، ونصوص توثيقية غير خيالية (Nonfiction) كالمقالات النقدية وأدب الرحلات والسير الذاتية للأدباء، حيث يكون فيها الخيال غير مطلوب بقدر الوثوقية في العمل. بعكس الأعمال السردية والشعرية التي تستند على منظومة خيال واسعة النطاق، وهنا نستطيع القول إن الخيال في الأعمال السردية هو خيال أحداث وشخصيات، في حين أن الخيال في الشعر هو خيال (لغة)، أي أنه خيال يتمثَّلُ في الحيل اللغوية والصور البيانية من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز، والتي تقوم على الربط بين عنصرين واقعيين بينهما شيء مشترك، كتشبيهِ جمال الوجه بجمال البدر مثلاً، والشاعر ذو الخيال الخصب هو الذي يستطيع أن يكتشف متشابهات بين عناصر مختلفة جداً ومتباعدة، على العكس من التشبيهات المكررة والمستهلكة، والأمثلة على خصوبة الخيال عند بعض الشعراء العرب والعالميين، لا تعدّ ولا تحصى، كقول ابن حزم الأندلسي في وصفه للهوى في كتابه (طوق الحمامة في الألفة والألاف):
كأن الهوى ضيفٌ ألمّ بمهجتي
فلحمي طعام والنجيع شراب
أو رائعة الشاعر الفرنسي شارل بودلير في ديوانه الشهير (أزهار الشر) وهو يناجي الموت:
آه أيها الموت
أيها القبطان العجوز المحنَّك
لقد حان الوقت.. فلترفع المرساة
هذا البلد يبعث فينا السأم
فلنبحر أيها الموت..
ولا ننسى هنا قدرة الخيال المبدع عند الشعراء المعاصرين على وجه الخصوص، في توظيف الرموز وكل ما هو غريب من صور الأساطير القديمة ومزجها مع صور الحقيقة، وهذه الصور وإن كانت متباينة مع بعضها البعض إلا أن خيال المبدع قادر على صهرها حتى يُخرِج منها قالباً جمالياً يؤثر في المتلقي. كما فعل بدر شاكر السياب (وهو أحد أكثر الشعراء العرب توظيفاً للأسطورة في الشعر)، حين وظَّف الأسطورة الألمانية يوهان فاوست في قصيدته (المومس العمياء):
المال شيطان المَدينة
ولم يحظ من هذا الرهان، بغير أجساد مَهينة
فاوست في أعماقهن يعيد أغنية حزينة
المال شيطان المدينة.. إنه ربُّ فاوست الجديد
أما في الأعمال السردية، فإن الخيال هو سيد الموقف كما يقول ميلان كونديرا، وكل عمل روائي هو بالضرورة عمل خيالي وإلا أصبح تاريخاً، حيث يكون الخيال هو المسؤول عن خلق أحداث وشخصيات ومواقف موازية لتلك الموجودة في الواقع أو مستمدة منه، بحث تكون معقولة ومقبولة ومحكومة بقوانين الواقع والحياة العادية. وهذا لا يعني أنها حقيقية أو أنها حصلت بالفعل، وإلا أصبح العمل السردي تاريخاً كما ذكرنا. كرواية الحرافيش لنجيب محفوظ مثلاً، فهي تتناول قصة غير حقيقية ولكنها مستمدة من الواقع، فالكاتب أخذ فكرة حقيقية موجودة في الواقع وخلق منها واقعاً موازياً لكي يوصل بها مجموعة من الأفكار. والأحداث التي تناولها هي أشياء يمكن أن تحدث على أرض الواقع، والشخصيات هي تجسيد موازٍ لشخصيات قد نجد لها شبيهاً بالفعل. وهنا لا يفوتنا دور الخيال الأدبي في إبداع شخصيات خالدة كجان فالجان بطل رواية “البؤساء”، وراسكولينكوف بطل “الجريمة والعقاب”، وفي هذا يقول الكسندر دوما: (يمتاز الروائيون بأنهم يخلقون شخوصاً تقتل شخوص المؤرخين، ومردّ ذلك أن المؤرخين يكتفون بذكر أطياف مجردة، في حين أن الروائيين يخلقون شخوصاً من لحم ودم).
كما ويحرص الكاتب في هذه الأعمال ألا يكون هناك تباين بين عالمه الروائي والعالم الحقيقي، فإذا تكلمت الرواية عن الثلج مثلاً، فإنها تفترض مسبقاً أن لونه أبيض على سبيل المثال.
الواقعية السحرية
ولكن علينا هنا أن نفرق بين هذه الأعمال الروائية، وروايات الخيال الجامح أو ما تسمى بالفانتازيا أو روايات الخيال العلمي أو روايات الواقعية السحرية، التي لا تخلق واقعاً موازياً للواقع العادي، بل متعارضاً معه ومع قوانينه، إذ تتناول أحداثاً لا يمكن أن تحدث، فالكاتب يشحذ مخيلته لتبدع شخوصاً لا تمتّ للواقع بصلة، كالوحوش الأسطورية والأماكن الخرافية مثل الكواكب المأهولة والقصور المرصودة.
أو كما هو الحال في مسرح العبث الذي يعتبر أن الأدب ليس محاكاة للواقع المعاش ومنطقه وحواراته وشخوصه العادية، بل هو خلق لواقع جديد له منطقه الخاص وحواراته، والتي تجعلنا نشعر وكأننا نعيش في مشفى للمجانين، ليوصل لنا الكاتب أفكاراً مجنونة عن عبثية هذا الوجود وهذه الحياة.
التاريخ: الثلاثاء20-10-2020
رقم العدد :1017