المجال التخيلي عالم الإشراقات المضيئة

 الملحق الثقافي:د. عبد الهادي صالحة:

الفن نشاط يبدع أثراً ما، غرضه الكشف عما هو أكثر عمقاً من سطح التجربة اليومية العادية. إن هذا النشاط بجميع أنواعه تحكمه ضوابط ونظم، منها ما هو جسدي وما هو نفسي وما هو عقلي، تتكامل في الصورة النهائية المبدعة. عندما يتصرف الفن وفقاً للعقل، يحقق عجائب خارقة للطبيعة، ويدمج نفسه في مجال الفكر الإنساني والحضاري. الفن هو وسيلة لتحديد اللحظات المؤثرة في الحياة أو تخيلها. تمتد حدود الفن إلى وراء كل الحدود، للوصول إلى السمو، وعبور ما لا يمكن الوصول إليه وإخضاع الأبدية.
إن الأعمال الفنية لا يمكن أن تعامل على أنها تجسيد للإرادة الواعية. إن عالم الفن هو عالم لاواقع فيه سوى واقع الخيال البشري؛ حيث نرى فيه كمية ضخمة تذكرنا بالحياة التي نعرفها. ويرى أفلاطون أن الفن حلم للعقول المتيقظة، إنه عمل الخيال المنسحب من الحياة العادية، والذي تسيطر عليه القوى ذاتها التي تسيطر على الحلم. ثمة ثلاثة مواقف رئيسية يتخذها كل واحد منا في هذا العالم. الأول حالة الوعي أو اليقظة التي تفصلنا كأفراد عن بقية العالم، والثاني هو الموقف العملي لخلق طريقة إنسانية للحياة، والثالث الموقف التخيلي أو الرؤية أو أنموذج العالم كما نتخيله نحن.
ينتمي الإبداع الفني في عمومه إلى المجال التخيلي، بحيث يرتبط بلحظات موغلة في الذات، تستكشف ما فيها من إشراقات وما تحمله من رؤى، إنها إشراقات مضيئة، وهي رؤى إيحائية. الإبداع بهذا المعنى هو وليد النفس، وليد التداعيات النفسية التي تكون مترسبة في اللاوعي. لقد ارتبط مفهوم الإبداع الفني بدلالة الإلهام الداخلي منذ القديم. وقد ذهب أفلاطون إلى القول بأن أحسن الشعراء يدينون بأشعارهم إلى الحماسة ولنوع من الغيبوبة حيث يخرجون عن شعورهم، وعن لاوعيهم. ورأى ابن عربي – كأفلاطون – في الإلهام فيضاً يتلقاه الإنسان من خارج الذات. ورأى فيكتور هيجو أن الشاعر ساحر يسمع ويردد. ورأى شيللي أن الشعر كشف عن الغمام حقاً، وأن الشاعر ينقل للناس رسالة من عند الله. وكذلك رد فرويد الإلهام إلى حالة من حالات اللاشعور، هي التسامي. أما برغسون فقد رده إلى الحدس. وقد رأى يونغ أن فعل الإبداع يفلت من قبضة الذهن البشري، لما يمتاز به من تلقائية.

في الواقع، تكمن عبقرية الفن في تحقيق اختراق واسع في سر الحياة، لسبر المجهول لكشف تشابك الوجود الإنساني. إن الفن، هبة طبيعية، قوة حكيمة وغامضة. عندما نتحدث عن كاتب موهوب، فهذا يعني، في الواقع، أنه نال موهبة استثنائية وخارقة للطبيعة، وبالتالي فهو يجسد هذه الروح الغامضة التي تسمى الفن.
كثيراً ما قيل إن الشاعر أو الرسام لا ينتج شيئاً، عندما يكون في حالة نفسية طبيعية، وأنه من أجل أن يبدع وينجب شيئاً عظيماً وسامياً، عليه أن يدخل عالماً مختلفاً عن ذلك الذي يعيش فيه. روح غامضة لا يمكن اختراقها تتسلل إلى كيانه كله، وتغرس فيه قوة إلهية، وملكة سماوية، تجعله ينتج أشياء غير متوقعة وغير مألوفة تماماً، شيئاً عميقاً وإلهياً، كما أشار أفلاطون ببراعة تامة.
هل كان هوميروس، من خلال ترديد الآيات الجميلة لـ “الإلياذة” أو “الأوديسة” بإيقاع، إلى الأبد تحت تأثير روح أجنبية؟ ودانتي، أثناء كتابته للكوميديا ​​الإلهية، هل كان في حالة كابوسية، حالة من اللاوعي المطلق؟ إن الشاعر، وكتاب العبقرية، والرسامون، وباختصار، كل أولئك الذين يتمتعون بقدرة تحويل فكرة، مثل الكيميائيين الماهرين، إلى شيء، مثيرة للاهتمام ومفيدة للحياة والعقل، هؤلاء الناس هل كانوا تحت سحر سر لا يمكن الوصول إليه، أم بالأحرى أدوات سلبية لروح عليا وغير مرئية؟ هذه القوة الغامضة، هذه الفكرة التي تنبثق في نور العقل، عابرة، مثل سيارة السباق، الفضاء الحيوي للدماغ، إنها بلا شك حاضرة في اللاوعي، مهدها ومصدرها البدائي. تعلمنا التجربة أن الشاعر يأخذ نقطة انطلاقه الوحيدة في اللاوعي.
يستمد الفنان إذن فكرته من منبع اللاوعي. لكن هذه الفكرة ستثبت أنها غير مهمة إذا لم يتم تشكيلها في بوتقة الفن؛ الفن وحده لديه القوة المطلقة لوضع الفكرة في التنفيذ، لإعطائها شكلاً وجسداً، لجعلها مفيدة وذات مغزى. يتمثل الفن في معرفة كيفية التعبير عن اللاوعي وإيصاله. إن اللاوعي يُترجم إلى أفكار، إلى تخمينات عقلية مجردة، والتي تتحول بفعل الفن، بوسائل خفية ومبتكرة. بالتأكيد يمكن لكل فرد أن يمتلك أفكاراً، فالجميع لا يفتقر إلى الخيال أو الثقافة، ولكن لا يستطيع الجميع إبراز هذه الأفكار وتجسيدها، الناتجة عن اللاوعي والتي تطفو في آفاق العقل. إن أي عمل إبداعي يفترض قبل كل شيء تصرفاً عقلياً مناسباً، قادراً على تعزيز تطوير الفكرة وتجسيدها، وتغييرها، وتحويلها إلى واقع ملموس، وهي عملية لن يستطيع القيام بها سوى الموهوبين والمزودين بقوة غامضة. إن الأعمال الإبداعية تنطلق في الواقع من قوة غير مفهومة ومبهمة.
علاوة على ذلك، فإن سيادة العبقرية لا تكمن دائماً في البناء المتكامل للعمل، بل على العكس، قد تبدو متناقضة، في المظاهر الأولى للفكرة. العبقرية لا تفعل شيئاً سوى أن نتعلم أولاً كيف نضع الأحجار، ثم نبني، بدلاً من البحث دائماً عن المواد وأن نعمل دائماً على وضع الشكل، لأن العبقرية تظهر، من الواضح، في اندفاعات، في الأوقات التي لم يكن متوقعاً فيها، تحت دافع الصدفة أو الاحتمالات الخارجية. إن الكتابة كما يرى الروائي البريطاني المعروف إف. إس. نيبول (1932م): “تأتي من أكثر أعماق المرء سرية، والكاتب نفسه لا يدرك تلك الأعماق (…) ترى ما أكثر أعماق المرء سرية التي لا يستطيع حتى الكاتب نفسه سبر غورها؟ إنها بكلمة واحدة “اللاوعي”… وإذا كان الوعي يعرف بأنه عملية عقلية مرتبطة باللغة لاستجلاء كنه الوجود، والذات الإنسانية، فإن كارل يونغ مؤسس علم النفس التحليلي (1875- 1961م) يعتبر أن “اللاوعي” عقل آخر، أو هو بالأحرى “العقل الطبيعي” الأكثر شمولاً من عقلنا الواعي، ونحن نعرف بوجود هذا “اللاوعي” من آثاره… وهكذا فإن العقل الواعي الذي يمكننا من الإحساس بالعالم اليومي، قد لا يكون على أدنى علم بما يحدث في مملكة “أخيه الأكبر” أي اللاوعي.
إن كل عمل أدبي وفني هو ثمرة اشتباك بين عالمين، ومستويين من العقل، اشتباك قد يبادر به الوعي ثم يمضي ليتغذى على العوامل الدفينة في اللاوعي، أو يبادر به شيء ما، يثب إلى السطح من العوالم الخفية، فيعمل العقل فيه التأمل والصياغة، وخلال ذلك تبقى روح المبدع ساحة معركة مشتعلة بأنوار الانفعالات والتوتر. إن الأعمال الأدبية والفنية عامة ليست ثمرة اللاوعي بمفرده، أو الوعي بمفرده، لكنها نتاج تفاعل مركب بين الجانبين يصعب أن نستبين فيه الطرف المبادر من الطرف الآخر. في هذه العلاقة قد نجد طرفاً موجهاً وآخر تابعاً، طرفاً يبدأ ثم يستمد قوته من الآخر، إذا جاز القول.

التاريخ: الثلاثاء20-10-2020

رقم العدد :1017

 

آخر الأخبار
Al Jazeera: لماذا تهاجم إسرائيل سوريا؟ الأمم المتحدة تدعو للتضامن العالمي مع سوريا..واشنطن تقر بمعاناة السوريين... ماذا عن عقوباتها الظالمة... دراسة متكاملة لإعادة جبل قاسيون متنفساً لدمشق " الخوذ البيضاء" لـ "الثورة: نعمل على الحد من مخاطر الألغام ما بين إجراءات انتقامية ودعوات للتفاوض.. العالم يرد على سياسات ترامب التجارية "دمج الوزارات تحت مظلّة الطاقة".. خطوة نحو تكامل مؤسسي وتحسين جودة الخدمات بينها سوريا.. الإدارة الأميركية تستأنف أنشطة "الأغذية العالمي" لعدة دول The NewArab: إسرائيل تحرم مئات الأطفال من التعليم الشعير المستنبت خلال 9 أيام.. مشروع زراعي واعد يطلقه المهندس البكر في ريف إدلب برونزية لأليسار محمد في ألعاب القوى استجابة لمزارعي طرطوس.. خطّة سقاية صيفيّة إيكونوميست: إسرائيل تسعى لإضعاف وتقسيم سوريا المجاعة تتفاقم في غزة.. والأمم المتحدة ترفض آلية الاحتلال لتقديم المساعدات أردوغان يجدد دعم بلاده لسوريا بهدف إرساء الاستقرار فيها خطوة "الخارجية" بداية لمرحلة تعافي الدبلوماسية السورية  الشرع يترأس الاجتماع الأول للحكومة.. جولة أفق للأولويات والخطط المستقبلية تشليك: الرئيس الشرع سيزور تركيا في الـ11 الجاري ويشارك في منتدى أنطاليا بعد قرارات ترامب.. الجنيه المصري يتراجع إلى أدنى مستوياته الأمم المتحدة تحذر من انعدام الأمن الغذائي في سوريا.. وخبير لـ" الثورة": الكلام غير دقيق The Hill: إدارة ترامب منقسمة حول الوجود العسكري الروسي في سوريا