ثورة أون لاين-د.ثائر زين الدين:
فازت الروائيّة البيلاروسيّة سفيتلانا الكساندروفنا الكسييفتش بجائزة نوبل للآداب عام 2015 عن روايتها الشهيرة “صلاة تشرنوبل”، التي قدَّمت فيها بطريقةٍ مذهلة معاناةِ الأرضِ ومن عليها بعد انفجارِ مفاعل تشرنوبل؛ وتركت كل ذلك ينسابُ من ألسنةِ الناسِ الذين تحدَّثت إليهم؛ بمعنى أنَّها جمعت كصحفيّة مُتنقِّلة ما رواه لها بشرٌ من مختلفِ الأعمارِ والمذاهبِ والمشاربِ والمواقعِ الوظيفيّة؛ من روسيا البيضاء وغيرها من الجمهوريات ولاسيما من القادمين إلى بلدها هرباً من الصدامات المسلَّحة في مناطق أخرى، ونسبت الكلامَ لأصحابه؛ ومن ذلك هذا المقطع الذي وقفتُ أمامه طويلاً حين كنا نترجم الروايةَ مطلع عام2016 ، والذي رواه للروائيّة أحد المتضررينَ من الانفجار الطبيبُ النفسي بيوتر س. أما لماذا قررتُ أن أضعَ هذا المقطع بينَ أيديكم فهذا ما سوفَ تدركونه بمرارة حين تنتهونَ من القراءة:
” ….. تذكرون، بيير بيزأوخوف عند تولستوي؟ كيف كان مصدوماً بعد الحرب، لدرجة، هُيّئَ له فيها – أن العالم كلّه تغيّر وإلى الأبد. لكن بعد مرور بعض الوقت، لاحظ على نفسه، بأنه أخذ يشتم السائق من جديد، ويتذمّر كذلك، كما في السابق. فلماذا إذا يتذكرُ الناس؟ لاستعادة الحقيقة؟ العدالة؟ التحرر والنسيان؟ كي يدركوا، بأنّهم – مشاركون في الحدث الضخم؟ أو يبحثون عن الحماية في الماضي؟ وهذا بالرغم من أن الذكريات – شيء هشّ، سريع الزوال، إنّها ليست معرفة دقيقة، بل حدس الإنسان عن نفسه. وهذه ليست المعرفة، إنّها أحاسيس فحسب.
شعوري… لقد عانيت، فتّشت في الذاكرة وتذكرت…
ما هو أكثر رعباً حدث معي في طفولتي… إنه- الحرب…
أتذكر، كيف كنا نلعب نحن الأطفال، لعبة “بابا وماما”: نزعنا ثياب الصغار ووضعناهم أحدهم فوق الآخر… هؤلاء كانوا أوّل الأطفال، الذين وُلدوا بعد الحرب. القرية كلّها، كانت تعرف ما هي الكلمات التي نطقوها، ومتى بدؤوا المشي، لأنَ الناسَ وبسبب الحرب كانوا قد نسوا الأطفال. لقد انتظرنا ظهور الحياة في “بابا وماما” – هكذا كانت تسمّى اللعبة. أردنا أن نرى ظهور الحياة… وكنا يومها نحن أنفسنا ما بين الثامنة والتاسعة من أعمارنا…
لقد شاهدت، كيف قتلت امرأةٌ نفسها. بين الشجيرات عند النهر. مسكت قطعة قرميد وضربت رأسها. كانت حاملاً من شرطي تكرههُ القرية بأكملها. وعندما كنت طفلاً شاهدت، كيف تُولدُ القطط الصغيرة. وساعدت أمي بسحب العجل من جوف البقرة، أخذت الخنزيرة التي نملكها إلى المزرعة لتلقيحها من خنزير… أتذكر… أتذكر كيف أحضروا والدي المقتول، كان في كنزة، حاكتها له أمي ، أُطلقتِ النار على والدي، على ما يبدو، من مدفع رشّاش أو من بندقيّة آليّة، وخرجت من الكنزة قطعٌ مدمّاةٌ. سُجّيَ على سريرنا الوحيد، حيث لم يكن من مكان آخر يوضع عليه. ثم دفنوه أمام البيت. تحت الحوض المعد لزراعة الشوندر، الأرض ليست ناعمة، بل طين قاس. المعارك حولنا في كل مكان… انتشرت جثث الناس والخيول في الشوارع…
تلك الذكريات ممنوعة بالنسبة إلي، حتى أنني لم أذكرها بصوت عال…
كنت حينها أتقبل الموت، تماماً كما أتقبل الولادة. كان شعوري نفسه، عندما ظهر العجل من البقرة… وعندما وُلدت القطط الصغيرة. وعندما قتلتِ المرأة نفسَها بين الشجيرات كذلك. لسبب ما هُيّئَ لي أنهما الأمر نفسه، إنهما متكافئان. الولادة والموت…
أتذكر منذ الطفولة، كيف كانت رائحة البيت، عندما يذبحون الخنزير… يكفي أن تلمسوني فحسب حتى أسقط، أسقط هناك. في كابوس… في رعب… وأطير…
أتذكر كذلك، كيف اصطحبتنا النسوة معهن، عندما كنّا صغاراً، إلى الحمّام. هبطت الأرحامُ عند النساء جميعهنّ بما فيهنّ والدتي (نحن كنّا ندرك ذلك)، وقد ربطنَها بقطعٍ قماشية. رأيت ذلك… خرجت الأرحامُ بسبب العمل الشاق. لم يكن هناك رجال، لقد قتلوهم على الجبهة، وفي حرب العصابات، ما من خيول أيضاً، لذلك كانت النساء تجرّ المحاريث بأنفسهن. حرثن حدائقهن، وأراضي الكولخوز. عندما كبرت،، تذكرت… ما كنت شاهدته في الحمام…
أردت أن أنسى. أنسى كلَّ شيء… ونسيت… فكرتُ، أن ما هو أكثر إثارة للخوف قد أصبحَ ورائي… وهو – الحرب. وأنني محميّ، أنني الآن محميّ. محميّ بمعرفتي، وبما هو هناك في الماضي… ماعشته حينها… لكن…
سافرتُ إلى منطقة تشرنوبل… زرتها مرّات كثيرة… وأدركت هناك، بأنني ضعيف. لم أفهم… وكنتُ أنهارُ بسبب ضعفي. ولأنني، لم أتمكن من التعرّف إلى العالم، العالم الذي تغيّر فيه كل شيء. حتى أن الشرّ هناك مختلف. الماضي لم يعد يحميني… ولا يهدئني… لا أجوبة فيه… من قبل كانت دائماً موجودة، أما اليوم فهي غير موجودة. يحطِّمني المستقبلُ، وليس الماضي. (يفكّر)
لماذا يتذكّرُ الناس؟ هذا هو سؤالي… لكنني تحدّثت إليكم، أفشيتُ شيئاً – ما بالكلمات… وفهمت شيئاً – ما… لم أعد وحيداً الآن إلى تلك الدرجة. لكن كيف هو الأمرُ عند الآخرين؟”.