الثورة أون لاين – ليندا إبراهيم:
ثمة من لا يزالُ يكتبُ ويمحو، ويجترحُ اللغة والأوزانَ والجمالياتِ والعبقريةَ الشِّعريةَ، ليأتي بقصيدة جديدة، وثمة من لا يزالُ يقارعُ الأوزانَ والعروضَ متحايلاً على صورة شعرية كامنة في مخزونه المحفوظ ليأتي بأبرع منها، وآخر من يقول خمَّسْتُ وربَّعتُ وثلَّثْتُ نصاً شهيراً، وآخرُ غيره يقوم بإضافة تفعيلة إضافية لجسدِ نصِّهِ ليشعر بأنه قام بفتح جليلٍ من أمهات القصائد، وآخرون يذهبون في الطريق المعاكس النافر من هذا كله، فيستسهلون ويسترخصون الكتابة أوزاناً ومعاني، صوراً وإحالاتٍ ودلالاتٍ، تراكيبَ وصورَ بلاغية، ولغة رخيصة استسهالية، ليقولوا خرجنا عن النسق والمألوف والمعهود، وربما ليقولوا وضعنا لنا موضع قدم في عهد شعري حداثي جديد، وربما أتى بعضهم بآلة موسيقية أو بمؤثرات صوتية جمالية ترافق الإلقاء للنصوص “الشعرية”، ليقول قد أتيتُ بجديد على سبيل التلقي والإلقاء، وقد يذهب بعضهم مذهباً آخر في تصنيف من يكتبون الشعر، بين شعراء كبار وشويعر، بين شاعرات وشعراء، ويقومون بإقامة التظاهرات التي تفصل بين الجنسين ممن يكتبون الشعر متجاهلين العمر أو التجربة الناضجة، بل ومتجاهلين الشعر نفسه، ومنهم من يذهب مذهباً آخر فهذا محام وذاك طبيب أو مهندس أو أو… ثم يتنطح للشعر ويذهب مذهب التعصب للشعراء المهندسين أو الشعراء الأطباء أو حملة الشهادات العلمية أو غير العلمية ممن يكتبون الشعر، بل ترى إلى صحفي شهير، أو مؤرخ جاوز الثمانينات وربما فنان أو مسرحي عرف واشتهر في مجاله ليأتي فيشتغل في كتابة الشعر ويُمَسْرِحَ الشعر أو يتلفزَهُ كحالةٍ خاصةٍ به وهو لم ينتج ولو مؤلفاً واحداً من الشعر في تاريخه كله.
ثم لنصاب بورم آخر في المشهدية الشعرية، وهو ورم الظهور الإعلامي بشتى أشكاله، ولا سيما الظهور عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الذي ضخم الذات، وأباح لها ما لم يكن مباحاً إلا لذي موهبة وإبداع، وهو النشر والانتشار بوسائل طغت عليها صفة المجاملة أو التجاهل حتى برز من خلال ثقوب وخَلَلِ هذه المجاملاتِ، الشُّعراءُ العظامُ، فرسانُ الميادين، ومثيرو غبار نقع معارك الشعر، وليحظوا بكل ما لذَّ وندرَ وعزَّ من شهاداتٍ ومراتبَ أدبيةٍ أو علميةٍ أو أكاديميةٍ أو صفاتٍ اعتبارية عابرة للفضاء الإلكتروني والقارات الألف، ليتصفوا بالعالمية بلمحة البصر وليس ثمَّة رقيب.
ثمَّ، ومن جهة مخفيَّةٍ أخرى، وفي غفلةٍ عن أعينِ الرَّقيب الثَّقافي المؤسَّساتي، أو ربما في بعض الأحيان بعلمه، لتتكونَ المنابر والملتقيات والتجمعات والمنتديات والنوادي والصالونات الأدبية الثقافية الشعرية، والنثرية والقصيرة جداً جداً، وبلا تراخيصَ رسمية لمعظمها، وامتدت العبقرياتُ إلى قصائد من نمط “الهايكو” اليابانية، ليتم سفحُ دمها على أيدٍ عربية، فتكتبَ بدماءِ “هايكو” عربية… ولتفرضَ هذه الملتقياتُ الافتراضيةُ على منابر الثقافة الرسمية المؤسساتية بلا تشذيبٍ ولتؤسسَ لشللية في الحضور وفي الكتابة وفي التعاطي وفي الذائقة، ولتفرز وتفرط عقدَ مُتَلَقٍّ تربَّتْ ذائقتُهُ الثقافيةُ طوالَ عقود على تلقِّي الثقافة والقراءة والمُطالعة وحبِّ الكتابِ والتثاقُفِ مع الآخر عبر المنابر الثقافية الرسمية، ولكي نعلم بالنشاط الذي سيقيمه النادي أو الفرقة أو المجموعة الفلانية منهم هم وليس من القائمين على المنابر الثقافية، وكأنَّ الأخيرين مغيَّبُون تماماً عن أي اقتراح أو صفة أو عملٍ، فهم فقط القائمون على المكان الذي سيقدم لهؤلاء ليقيموا به نشاطهم.
ثم لتظهر تلك الطبقة من “محبي الثقافة” و”داعمي” الإبداع فيقوموا باجتراح وإنشاء ملتقيات لتكريم الإبداع والمبدعين ممن شارفوا على أواخر سني عطائهم، أو المغمورين منهم، ومنذ متى كان المكرَّمُ أكبرَ شأناً من الجهة المكرِّمة الرسمية العليا، ومن جهة أخرى ثمة من يقبل بهذا التَّكريم، تشجيعاً أو عدم دراية كافية بحجم الجهة “المكرمة” الفتية المبتدئة تلك.
وفي وسط هذه الفوضى العارمة، أعترف بأنني غيرُ متفائلة، لكنني لست متشائمةً قط، فالزمن كفيل بأن يعوَّلَ عليه، فيفرز الغث من السمين، ويغربلَ التجارب والأصواتَ الإبداعية، ويفرز الجيد من الرديء، كذلك يعوَّلُ على أصحاب الموهبة الحقيقة وحملة المشاريع الكبرى والتجارب الجادة الكفلاء بأن يبقوا ويثبتوا وحسبُ الشعر والحركة الشعرية هؤلاء.
ثمة علامات فارقة في مسيرة كل أمة ولغة وثقافة مشتركة، وهي الانعطافة الأهم والنقلة النوعية والمفترق الجديد بين ما قبله وما بعده، والتي يحدثها العباقرة والمجتهدون الأفذاذ، وما أكثرها في موروثنا الشعري، وهنا وبعد ما يقارب العقود بعد القرون من الكتابة الشعرية على الأوزان وبكل أشكال القصيدة، والتجريب في شكلها التفعيلي، وكذلك بعد أن اشتد عود قصيدة النثر ونضجت رؤاها، أقول ثمة مخاض كبير يتكون في جسد الشعرية العربية، مخاضٌ سيأتي بمولود على درجة من التميز والفرادة ولكن سيأخذ وقته في المخاض… مخاض يتكون على وقع المبارزة الخفية
بين الإبداع واللاإبداع، بين الفريد والأكثر فرادة، بين التقليدي والمستحدث، مخاض يخلِّقُ مولوداً قادماً شهد الحروب النادرة الأبشع في التاريخ، وشهد ما لم تره عين افتراضياً وعاش كل ما يريد عيشه، وجرب وعايش وعاين جميع أنواع الإحساسات البشرية من أقصاها إلى أقصاها وفي العمق، وبات قادراً على معرفة الفرق بين العقل والنقل بين الابتكار والتجديد والحداثة والاتباع. مخلوق هو جيلٌ لم يعد يدهشه سوى ما يقدمه من إدهاش فأين الشعر يا أولي الألباب.