كل منطلقات الفن الحديث قائمة على الثقافة، ومن لا يمتلك ثقافة فنية غير قادر إلا على تلقي الفن السطحي والاستهلاكي، هناك لوحات واقعية حديثة راقية جداً، ولكنها لا تعجب إلا النخبة، لأن فيها لمسات عفوية، واللمسات العفوية، التي هي أساس أي عمل فني حديث، تعتبر من وجهة نظر العامة، أو غير المعني بالفن مجرد خربشة..
هكذا نجد أن الإحساس بجماليات الفنون الحديثة، يحتاج لمتابعة وثقافة وحساسية بصرية وروحية عالية، إلا أن هناك أعمالاً أخرى لا تحتاج لثقافة، ويمكن حتى لمن لا يعرف القراءة والكتابة، أن يعجب بها ويقتنيها ويدافع عنها، مثل الأعمال الكلاسيكية والواقعية التقليدية، وهذه الأعمال تتسم بصياغاتها التقريرية المباشرة، وهي لا تحتمل التأويل والتنظير، الذي تتطلبه الأعمال الفنية الحديثة.
وحين نتحدث عن الأمي فنياً، فإننا نعني به البعيد عن ثقافة فنون العصر، حتى وإن كان حائزاً على أعلى الشهادات في مجالات أخرى.. كما أن ثقافة معظم الدارسين للفن محدودة، وأغلبهم لا يجيدون رسم أبسط الأمور بطريقة أكاديمية صحيحة.. فالأكاديمي في الفن، من وجهة نظري، هو الذي يجيد الرسم الأكاديمي، حتى وإن كان قادماً من خارج المحترف الأكاديمي، وبعض كبار النقاد والفنانين لم يدرسوا الفن ولا النقد، والأمثلة كثيرة، والناقد الفرنسي الشهير أندريه مالرو أنموذج.
والفن التشكيلي يختلف عن الأدب بأنه لغة عالمية، لا تحتاج لترجمة، وهذا ساعد على استمرار الفنون التشكيلية القديمة، وتفاعلها مع بعضها، في كل الحضارات المتعاقبة، التي تعود بجذورها إلى الفنون البدائية، التي جسدها إنسان العصر الحجري على جدران الكهوف.
والمفارقة الجمالية التي يمكن ذكرها هنا تكمن في أن الفنون الفطرية (مثل رسوم عبلة وعنترة) والفنون الشعبية والحروفية والزخرفية، لم تكن تحتاج لثقافة من المتلقي العربي، وحين اشتغل عليها بعض كبار قادة الفن الحديث من أمثال: هنري ماتيس وبول كلي، وعملا على كسر رزانتها الهندسية أصبحت تحتاج لحساسية ولثقافة فنية عالية لتفهم أسرار جمالياتها الحديثة، ومن هنا بدأت أزمة التقليد واجترار ثقافة فنون الغرب، في خطوات التعامل مع مفردات التراث العربي برؤية شرقية وغربية في آن واحد.
رؤية ـ أديب مخزوم