ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحريرعلي قاسم:
اعتاد الأميركي على مدى عقود تسيّده المشهد الدولي الرهان على حاضنته الجاذبة، ومارس من خلالها سطوته العارمة على أعدائه وخصومه كما هي على حلفائه وأصدقائه، وكانت في أغلب الأحيان الورقة الحاسمة،واستطاعت أن تئد كل محاولة للخروج من منطق الهيمنة الأميركية.
اليوم، المقاربة مختلفة، وإن لم تتبلور بشكل كلي وواضح، لكنها ترسم هوامشها على الموقف الأميركي، وتمانع بشكل صريح قراره، بدليل هذه الحصيلة الهزيلة من الحلفاء والتابعين الذين بقوا حتى اليوم في الضفة الأميركية، ما استدعى استنفاراً لا يقتصر على التجييش وحشد الطاقات والإمكانات، بل اقتضى البحث عن أوراق ضغط تعيد للسطوة الأميركية بعضاً من حضورها.
وقد تكون المذاكرة المطولة للأمين العام للحلف الأطلسي حول الحلف وموقفه ودوره ومقدراته وقوانينه باكورة نتائج ذلك الاستنفار، بالتزامن مع تصعيد البيت الأبيض من أوراق ضغطه السياسي داخلياً وخارجياً، حيث تمارس أذرعه الاستخباراتية والدعائية دورها الضاغط باتجاه تجييش الموقف.
فالشرح المسهب الذي قدمه راسموسن والتفاصيل المغرقة في جزئياتها تتقاطع مع سعي إدارة أوباما لإعادة تعويم مواقف حلفائها الرافضين، والإمساك مجدداً ببعض الأذرع التي بدت أنها خارج القبضة الأميركية، خصوصاً ما كانت تعوّل عليه في حساباتها التقليدية وتعتبرها تحصيلاً منتهياً لا يحتاج إلى نقاش ولا إلى جدال.
وبعد خيبتها من الحليف البريطاني تستدير باتجاه الأجزاء المتبقية من مناطق النفوذ الأميركي المعتادة، وخصوصاً الحلفاء الأكثر قرباً وربما الأكثر طواعية.
إعادة الأميركي تشبيك الخيوط مع الحلفاء والأدوات والأذرع والأصابع تصطدم على أكثر من صعيد بتفاعل مزدوج على الساحة الداخلية الأميركية، وبتناقض متعدد الأبعاد على الجبهة الخارجية، خصوصاً أن الخيارات البديلة تبدو كارثية على مستقبل الطاقم السياسي الأميركي القائم حالياً، ما استدعى قيام الصحافة الأميركية بشن حملة تعبئة سياسية وإعلامية ودعائية مضاعفة وشمولية لكسب مزيد من النقاط داخل الكونغرس.
ولذلك أيضاً لم تتردد إدارة أوباما في سحب خطابها الأول المرسل إلى الكونغرس لإعادة صياغته ليكون منسجماً مع أهواء بعض الكتل النافذة داخله، ويستجيب في الوقت ذاته لكثير من الملاحظات الأولية التي وردت في اللقاءات التحضيرية والتحريضية التي تعقدها إدارة أوباما مع أعضاء الكونغرس، بحيث تستطيع أن تغلق الثغرات القائمة في خطابها الأول وترضي في الوقت ذاته اللوبيات المتشددة داخله ومراكز الضغط خارجه.
على المنوال ذاته تحاول الإدارة الأميركية أن تسترضي بعض حلفائها، وتنشط في البحث عن كمائن سياسية تعيد إلى السرب الأميركي تبجحه، بعديده رغم ما يتهدده من انحسار، كي لا يبقى الأميركي وحيداً وهو أيضاً ما قد ينسحب على الرئيس أوباما ذاته، وما ينتظره من أيام صعبة.
المشهد الفرنسي يتشابك مع الأميركي يميناً ويساراً، وتلتف حوله الكثير من الأحجيات التي تزيده ارتباكاً وغموضاً وتضيف إلى حوامله السياسية عوامل تعقيد ناتجة عن التغول الأميركي في استباحته، وتتحرك بداخله وعلى حوافه عوامل متناقضة تحاكي الحال الأميركي، وتجعل عملية فك رموزه مهمة مستحيلة وسط ضحالة فكرية وسياسية وقحط في الرؤية الموازية لها.
المحاكاة الفرنسية في تعرجها عن الخط الأوروبي تعكس انزياحاً واضحاً يرتبط بتلك الضحالة التي تستحكم بمفرزات القرار الفرنسي وصانعه سياسياً وفكرياً، والتي اقتضت أن تكون تابعاً ثانوياً في الفلك الأميركي التائه اليوم بين حسابات أوباما واشتراطات الكونغرس.
في كل الأحوال لا يغيب عن ذهن الإدارة الأميركية أن الاحتماء بالكونغرس يقتضي بالضرورة مزيداً من التنازلات وقبولاً بكثير من الضغوط وشروط الابتزاز على المستويين الداخلي والخارجي، بما يعنيه من استيلاد مشكلات بنيوية في القرار الأميركي، ستظل ضاغطة على ساكن البيت الأبيض، وقد تفرض عليه ما هو أبعد من قبول أولي بشروط الجمهوريين وصولاً إلى استرضاء الحلفاء وتقديم ما يغريهم بالعودة إلى الحاضنة الأميركية المتداعية سياسياً وأخلاقياً والمتخمة بالأكاذيب الفاضحة، والتي باتت نابذة ومنفرة، يفر منها الحلفاء.. المقربون منهم قبل الثانويين، والتقليديون أكثر من المستجدين.
a.ka667@yahoo.com