الثورة – إيمان زرزور :
في كل بقاع العالم التي عانت من الطغيان والاضطهاد، لجأت الشعوب لاحقاً إلى تحويل أماكن الألم إلى مساحات للوعي والتأمل والاعتراف، من معسكر “أوشفيتز” في بولندا، إلى معتقل “روبن آيلاند” في جنوب إفريقيا، وصولاً إلى متحف “أركيفو ناسيونال” في الأرجنتين، في هذه الأمكنة، لم تُمح الذاكرة، بل تحوّلت إلى شاهد حي على قدرة المجتمعات على الاعتراف بالانتهاك ومواجهة الحقيقة.
لكن في سوريا، لا تزال جراح السجون مفتوحة، وتحديداً تلك التي مثلها سجنا تدمر وصيدنايا، وهما ليسا مجرد معتقلين، بل رمزان للحقبة الأمنية التي حوّلت البلاد إلى مختبر للرعب.
في 27 حزيران/يونيو 1980، استيقظ السوريون على واحدة من أبشع المجازر في تاريخهم المعاصر، حين دخلت سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد إلى سجن تدمر، وأعدمت جماعياً مئات المعتقلين السياسيين في زنزاناتهم، من دون محاكمة أو محاسبة حتى اليوم.
وفي صيدنايا، تكرّر المشهد على نحو ممنهج طيلة سنوات، إذ تحوّل السجن إلى مسلخ بشري، بحسب توصيف “منظمة العفو الدولية” في تقريرها الشهير عام 2017، مورست فيه عمليات إعدام شبه يومية طالت آلاف المعتقلين دون محاكمة عادلة، أو حتى إبلاغ ذويهم.
لم تكن تلك الانتهاكات مجرد ممارسات معزولة، بل جزءاً من نمط منظّم للتعذيب والتجويع والإذلال، وصل حدّ الإبادة الممنهجة، وقد ترافق ذلك مع ظروف احتجاز كارثية، شملت العزل التام، وغياب أي شكل من أشكال الرعاية الصحية، ما جعل صيدنايا يُعرف في تقارير الأمم المتحدة ومراكز التوثيق الحقوقي الدولية على أنه أحد أسوأ السجون في العالم من حيث انتهاك الكرامة الإنسانية.
اليوم، وبعد أكثر من أربعة عقود على تلك المجازر، ومع سقوط النظام البائد، تظهر مبادرة من “رابطة الناجين من سجن تدمر” تطالب بتحويل هذين السجنين إلى متاحف وطنية، تحفظ ذاكرة الضحايا وتوثّق مرحلة سوداء من التاريخ، لا بدّ من مواجهتها بدل دفنها في رمال الصمت أو التجاهل السياسي.
لماذا هذا المطلب اليوم..؟
لأننا أمام فرصة نادرة لكتابة تاريخ سوريا من جديد، ليس من زاوية الغلبة أو العقاب، بل من زاوية الاعتراف والمصالحة، المتاحف ليست أماكن سياحية فقط، بل أدوات تربوية، وأرشيف إنساني، وصوت من لا صوت له، حين يتحوّل سجن إلى متحف، لا يعود مجرد مبنى، بل يصبح مرآة لماضٍ يجب ألا يتكرّر.
تحويل السجن إلى متحف، لا يعني الانتقام من الماضي، بل الاستفادة منه، لا يعني جلد الذات، بل فهم كيف انزلقت البلاد إلى جحيم الاستبداد، وهي خطوة نحو بناء وعي جماعي جديد، يحصّن الأجيال القادمة ضد إعادة إنتاج الاستبداد أو تطبيع القمع باسم الأمن أو الدولة.
والثابت أن تحويل سجنَي تدمر وصيدنايا إلى متاحف لا يعني فقط إغلاق فصل طويل من الألم، بل هو بداية سردية وطنية جديدة، تُعيد الاعتبار للمجتمع، وتؤسس لدولة تعترف بمواطنيها وتعتذر عن آلامهم، لا تواصل إسكاتهم، فذاكرة الألم لا تختفي بمرور الزمن، بل تتحوّل إلى شبح يطارد المجتمعات، وبدلاً من الهروب منها، يجب أن ننظر إليها مباشرة، ونوثّقها لا كرغبة في الانتقام، بل من أجل الشفاء.