الثورة – عدي جضعان:
في خطوة دبلوماسية مفصلية، أعلنت الحكومة التركية اليوم الجمعة تعيين نوح يلماز، نائب وزير الخارجية، سفيراً فوق العادة لها في دمشق.
ويُمثل هذا القرار إنهاءً لسنوات طويلة من التمثيل الدبلوماسي المنخفض على مستوى القائم بالأعمال، ومؤشراً قوياً على عزم أنقرة ترسيخ مسار تطبيع العلاقات مع سوريا.
وأكدت مصادر دبلوماسية أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أبلغ نائبه يلماز رسمياً بهذا المنصب الجديد، في تحرك يُتوقع أن يفتح فصلاً جديداً في تاريخ العلاقات المعقدة بين البلدين الجارين.
خبرة أمنية وأكاديمية
يُعدّ اختيار نوح يلماز (نائب وزير الخارجية منذ مايو 2024) بمثابة رهان تركي على قدرة شخصية ذات مؤهلات متعددة على إدارة ملفات متشابكة، فالسفير الجديد يتمتع بسيرة ذاتية استثنائية تجمع بين العمق الأمني والخبرة الأكاديمية الرفيعة، حيث شغل يلماز مناصب حساسة، أبرزها مسؤول رفيع في جهاز الاستخبارات الوطنية التركي (MIT) بالإضافة إلى رئاسة مركز الأبحاث الاستراتيجية في وزارة الخارجية، وهو ما يرجح تركيز أنقرة على مقاربة أمنية واستراتيجية متماسكة في المرحلة المقبلة.
كما يحمل يلماز الدكتوراه في علم الاجتماع ودرجات علمية متقدمة من جامعات مرموقة عالمياً مثل بلكنت وترنت الكندية، كما شمل تدريبه دورات قيادية في جامعة هارفارد وجامعة جورج تاون، ودورة كبار الضباط في حلف “ناتو”، ويُضاف إلى ذلك اكتسابه ميزة حيوية عبر تلقيه دورة متقدمة في اللغة العربية بالأردن.
دور محوري
وفي هذا الصدد، يؤكد الباحث في الشؤون الاقتصادية والمالية لصحيفة “الثورة”، سليمان جمال سليمان، أن السفير نوح يلماز سيكون له دور “محوري في إعادة بناء الجسور الاقتصادية بين أنقرة ودمشق”.
كما توقع سليمان أن يشكّل تعيين يلماز “نقطة تحوّل مهمة في المسار الاقتصادي بين البلدين”، خاصة في مجالي البنية التحتية والتجارة الحدودية، كما يُرجح أن يُركّز الطرفان على إعادة تنشيط حركة التجارة عبر المعابر الحدودية، التي كانت “شرياناً اقتصادياً رئيسياً قبل عام 2011”.
ويضيف الباحث الاقتصادي أن المرحلة الجديدة من التواصل الرسمي ستشمل العمل على إعادة فتح بعض المعابر التجارية المغلقة وتحسين كفاءة المعابر العاملة حالياً، مثل معبري باب الهوى وباب السلامة، لتسهيل انسياب البضائع وطرح ملف التعرفة الجمركية والرسوم على الطاولة للوصول إلى تفاهمات تدعم الحركة التجارية وتُعيد الثقة بين القطاعين الخاصين.
الطاقة والاستثمارات
وبين سليمان أن السفير يلماز سيساهم إلى تسهيل عودة الشركات التركية التي غادرت السوق السورية وتشجيع الاستثمارات التركية الجديدة، خاصة في المناطق الصناعية القريبة من الحدود.
كما يُحتمل أن يتسع الحوار الاقتصادي ليشمل ملف الطاقة والموارد، “خصوصاً في ظل حاجة سوريا إلى إعادة تأهيل بنيتها التحتية ومحطاتها الكهربائية”، ويرجّح الباحث امتلاك تركيا دوراً محورياً في هذا المجال “من خلال خبرتها الفنية وشركاتها المختصة في البناء والطاقة”، ضمن رؤية أوسع لربط التعاون الاقتصادي بمشاريع إعادة الإعمار.
ويختم الباحث الاقتصادي سليمان جمال سليمان حديثه بالإشارة إلى أن الخطوة هي جزء من الدبلوماسية الاقتصادية التركية التي تسعى إلى “تحقيق استقرار إقليمي ينعكس إيجاباً على الاقتصادين التركي والسوري في آنٍ واحد”، مؤكداً أن هذا التعيين يمهد لإعادة بناء الروابط التجارية وتنشيط قطاعات الطاقة والبنية التحتية، مما قد يُغيّر خريطة التبادل الاقتصادي في المنطقة.
توقيت حساس
بدوره أكد الباحث السياسي محمد سليمان في حديث لـ”الثورة”، بالقول:” إن تعيين يلماز يأتي في وقت حاسم “لم يعد فيه التنسيق الروسي الإيراني يشكل القوة المهيمنة في المنطقة بعد تراجع النفوذ الإيراني”، لاسيما وأن المحيطين الدولي والإقليمي يشهدان “إعادة تقييم شاملة للوضع السوري، حيث تسعى الدول الداعمة لسوريا إلى أن تكون جزءاً فاعلاً في عملية الاستقرار”.
ويُعدّ تعيين يلماز تتويجاً لـ “جهود تفعيل التعاون” التي قادها برهان كور أوغلو، القائم بالأعمال التركي السابق، خلال مرحلة ما بعد التحرير وبداية المرحلة الانتقالية.
وتُعدّ سيرة السفير نوح يلماز الاستثنائية العامل الأبرز في هذا التعيين، إذ أمضى نحو عقد داخل جهاز الاستخبارات التركية (MIT) منذ عام 2013، حيث تولى مهام “التحليل الاستراتيجي والإشراف على مراكز التدريب والتخطيط”، قبل انتقاله إلى وزارة الخارجية عام 2024.
وفي هذا السياق، يتابع الباحث السياسي محمد سليمان حديثه بالقول :” إن هذه الخلفية تجعل يلماز مؤهلاً لقيادة مرحلة حساسة من التعاون مع دمشق، خاصة في الملفات المعقدة مثل مكافحة الإرهاب وضبط الحدود والتعامل مع الجماعات المسلحة العابرة للحدود ،وبحث مستقبل ملف قسد ،وسبل إنهاء الوجود الإيراني غير النظامي في
الأراضي السورية”.
شراكة استراتيجية
ويؤكد الباحث السياسي أن تعيين السفير يعكس رغبة أنقرة في دعم سوريا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ويحظى هذا التحرك بترحيب دولي، لا سيما من إدارة ترامب الثانية، التي ترى في التعاون مع تركيا “وسيلة فعالة لمواجهة التهديدات المشتركة مثل عودة تنظيم داعش وضبط النفوذ الإيراني”.
ووفقاً لسليمان، تسعى تركيا لتوظيف هذا التعاون في إطار مشروع متكامل لإعادة الإعمار، متمثل في فتح الطرق التجارية الرئيسة (M4 و M5)،إعادة تنشيط الصادرات التركية إلى سوريا والعالم العربي،المساهمة في إصلاح البنى التحتية المدمرة،دعم برامج عودة اللاجئين السوريين (الذين يبلغ عددهم نحو 3.6 ملايين شخص) الموجودين على أراضيها..
ويختم الباحث السياسي محمد سليمان حديثه بالقول إن الدور المنتظر من نوح يلماز يتجاوز الجانب الأمني إلى بناء علاقة استراتيجية شاملة ، خاصة وأنه يمكن أن يُشكل “جسراً للحوار بين النخب السياسية والفكرية في البلدين”، بهدف تأسيس شراكة طويلة الأمد “تسهم في إعادة سوريا إلى موقعها الطبيعي في الإقليم، ضمن معادلة توازن جديدة تقودها تركيا نحو الاستقرار الإقليمي والتنمية المشتركة”.