الثورة أون لاين – عبد الحليم سعود
رغم تنظير الكثير من المحللين السياسيين والاقتصاديين الاستراتيجيين إلى اقتراب نهاية عصر العولمة مستشهدين بتقوقع أميركا خلال ولاية الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب على نفسها عبر إطلاق شعار “أميركا أولا” وشن المزيد من الحروب الاقتصادية والتجارية ضد دول حليفة وأخرى منافسة لها ، ودخولها في ما يشبه العزلة الدولية في الفترة الماضية بسبب سياساتها العدائية ، إلا أن تأثيرات عقود طويلة من هذه الظاهرة القديمة التي جددتها الولايات المتحدة في القرن الماضي لا تزال مستمرة بشكل كبير وعلى نطاق واسع ، ومن غير المتوقع أن تنتهي بقرار لأنها بالأصل ظاهرة قديمة مرتبطة بنزوع القوى الكبرى للسيطرة والهيمنة ومد نفوذها بعيداً عن حدودها الجغرافية ، وتعميم قيمها وثقافتها من أجل استثمار ذلك كأرباح اقتصادية في النهاية مع ما يعنيه ذلك من كسر استقلالية الدول الوطنية وإلغاء سيادتها ضمن الحدود المعترف بها .
وكما نعلم فإن مصطلح العولمة ، الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية وتصدرت مشهده الولايات المتحدة باعتبارها أحد المنتصرين بتلك الحرب ، لم يعد مقتصراً على التجارة الحرة والاقتصاد الحر العابر للحدود ، وإنما أصبح أكثر شمولية ليدخل في صلب السياسة والثقافة والاجتماع وصولاً إلى العادات والتقاليد والكثير من المجالات الأخرى التي تهم الشعوب والأمم كافة ، فالقوي يحاول فرض نفسه وتعميم قيمه وثقافته ووجهات نظره بما يخدم مصالحه ، ولكن ما جرى في حالة الولايات المتحدة هو أنها استخدمت فائض القوة العسكرية لديها إلى جانب نفوذها السياسي كزعيمة للمعسكر الرأسمالي الغربي ، بالإضافة إلى تفوقها العلمي والتكنولوجي في مجالات عديدة ، من أجل اقتحام الحدود وإلغاء الجغرافية والتدخل في شؤون الدول والشعوب لتعميم قيمها وثقافتها الخاصة ، بدءاً بالمصطلحات المتعلقة بأساليب الحكم والإدارة وصولاً إلى الألبسة والأزياء والأطعمة والمأكولات الخ ، مع ما يفرضه كل مصطلح من تغييرات في الوعي والممارسة لدى الشعوب والأمم الأخرى ، وكل ذلك في سبيل تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح المالية والاقتصادية والحضور السياسي والعسكري والثقافي .. الخ على حساب مصالح الآخرين .
ولو توقفنا فقط عند الجانب الاقتصادي الذي ميّز ظاهرة العولمة الأميركية في العقود الماضية لاكتشفنا تأثيرات ومفاعيل لها تجلت بأكثر من شكل :
– السيطرة على رؤوس الأموال العربية “الخليجية” وحجز استثماراتها في الغرب حيث تقدر هذه الأموال والاستثمارات بمئات مليارات الدولارات .
– هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية كقطب واحد على اقتصاديات العالم وعلى مصادر الطاقة ، وخاصة النفط ، من أجل التحكم بالعالم عبر محاولة القضاء على سلطات وقوة الدول الوطنية في المجال الاقتصادي “النموذج الخليجي مثالا” .
– تحقيق مصالح الشركات الرأسمالية الكبرى والمجموعات الغنية في الدول الغربية ، وكذلك القوى المتحالفة معها في الدول الأخرى على حساب الشعوب الفقيرة والدول النامية ، وأكبر مثال على ذلك محاولة الولايات المتحدة الأميركية الدفع بالكيان الصهيوني إلى واجهة دول المنطقة ، ومساعدته عبر التطبيع المجاني مع الدول العربية كي يكون قوة إقليمية متحكمة ذات نفوذ يتجاوز الأراضي الفلسطينية المحتلة بكل ما يعنيه ذلك من أطماع إسرائيلية بالنفط والغاز والمياه والثروات والأسواق العربية ، على اعتبار أن الكيان الصهيوني قاعدة متقدمة للعولمة الأميركية الاستعمارية في منطقتنا .
ويؤكد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد أن بلاده عانت من آثار العولمة في السنوات الأخيرة ، وفي هذا الصدد يقول : “إن العالم المعولم لن يكون أكثر عدلاً ومساواة ، وإنما سيخضع للدول القوية المهيمنة” ، ثم يضيف : “في عالم معولم سيصبح بإمكان الدول الغنية المهيمنة ، فرض إرادتها على الباقين ، ولن تكون حال هؤلاء أفضل مما كانت عليه عندما كانوا مستعمَرين من قبل أولئك الأغنياء” .
لا شك بأن مخاطر العولمة التي تقودها الولايات المتحدة كثيرة وهي لا تتوقف أو تنحصر فقط بما تم ذكره من جوانب مالية واقتصادية بل قد تتعداهما إلى مختلف جوانب الحياة ، بحيث تنتهي خصوصيات الشعوب وتتشوه قيمها وثقافتها لصالح ثقافة القوة المهيمنة التي تتلاعب بمصير العالم ، ولا سبيل للتصدي لهذه الظاهرة إلا بالتحصين الداخلي لعوامل ومكامن القوة في كل دولة ولكن ضمن عالم متعدد الأقطاب يسوده العدل والمساواة ويحترم خصوصية كل شعب ضمن حدوده المستقلة ، ويحافظ على سيادة الدول ويحفظ أمنها ، إضافة إلى السعي مع الدول المحبة للسلام كالصين وروسيا إلى تقوية دور الأمم المتحدة ومؤسساتها ذات الصلة بما يخدم مبادئ السيادة والاستقلال والعدالة الدولية والمساواة في الحقوق وعدم التدخل في شؤون الغير .
وكما أكد السيد الرئيس بشار الأسد في كلمته الأخيرة بجامع العثمان فإنه ومع ثورة الاتصالات التي شهدها عالمنا المعاصر وكثرة مواقع التواصل الاجتماعي التي تسوِّق لقيم وثقافات الآخرين بشكل غير منضبط ، لا سبيل للحد من تأثيرات العولمة ومفاهيمها الغريبة على مجتمعنا سوى بتحصين الأسرة بالقيم والمبادئ والأخلاق المستمدة من عقائدنا وحضارتنا ومناهجنا التربوية التي أشرف عليها متخصصون مدركون لطبيعة المخاطر التي تتهددنا وتستهدف مجتمعاتنا ، لأن الأسرة والمدرسة تشكلان معاً أول خطوط الدفاع عن ثقافتنا وهويتنا في وجه هجمات العولمة الغربية المتوحشة