الثورة أون لاين – د. مازن سليم حضور:
ليس مصادفةً أن أتوجه إلى محافظة حلب في ذكرى انتصارها الرابع لتوقيع كتابي الأول “حرب سورية .. صراع التطرف والإعلام” الذي يتناول في صفحاته تراكمات الحرب السورية والعلاقة المتبادلة بين “الإعلام والتطرف” بالاستفادة من بعضهما في فترة الحرب .
اخترت حلب التي تكاد أن تكون الشاهد الأكبر على جرائم الإرهاب في سورية، و واحدة من المُدن التي شنت عليها حروب قبل الأوان، حروبُ بدأت من الماضي، من تاريخها، وكأن العثمانيين الجدد عادوا لينتقموا ليس فقط من حلب بل من سنواتها، من عُمرها و من كل شاهدٍ فيها على التاريخ و الحضارة و عمق الحِرف و الصناعةِ عبر ازمانها، و الكلام هنا ليس للدولة السورية فقط، في العام 2016 دعت المديرة العامة لليونسكو، إيرينا بوكوفا، إلى وقف ممارسات التدمير التي تتعرض لها المدينة القديمة في حلب، كما أنها أدانت استهداف التنظيمات الإرهابية للمتحف الوطني بالقذائف الصاروخية و هو المتحف الواقع على مشارف حدود المدينة القديمة في حلب المدرجة ضمن مواقع التراث العالمي .
تكمل الطريق إلة عاصمة الصناعة السورية، يبدو المشهد مختلفاً عن ذلك الذي اعتادته دروب المدينة خلال الحرب، صورة ساحرة ارتبط اسمها بحلب قبل أن يلتهم النار نصفها و يسرق النظام التركي معامِلها .
بداية الرحلة وتحديداً بعد منطقة “الثنايا” تشاهد مجموعة من قصات الصوف والفرو بألوان مختلفة، لتجد نفسك بعدها أمام لوحةٍ من نوع آخر لا يقل جمالا و كأنك تتنقل بين “الفصول” لكن بذات الوقت ، اللون الأخضر والبني على طرفي الطريق يوحي بموسم زراعي مبشر، تصل بعدها إلى جسر “الرستن” لتتفاجأ بتحويلةٍ طرقية أخرى بسبب صيانة الجسر أحد أهداف التنظيمات الإرهابية في تدميرها للبنى التحتية، تتجاوز الجسر لتقلل من سرعة المركبة التي تقودها لوجود رتل عسكري روسي وفق العلم المرفوع فوقه، أمتار أخرى تصدمك بعدها رؤية رتل عسكري طويل يحمل علم النظام التركي خلال إخلاء إحدى نقاطه غير الشرعية على الطريق الدولي، الملفت هو سحب النظام التركي حتى للسواتر الإسمنتية وكأنه لا يريد أن يترك أي أثر له كشاهد على هزيمته المذلة و الدور الأساسي له في الحرب على سورية، وأمام هذا المشهد المتناقض تحضر أمامك صور كثيرة عن حقيقة مدعي الحرية و مدى الكذب الذي لفق خلال سنوات الحرب، لكنك و إن تابعت الطريق ستجد الثابت الأهم في كل المعادلات : علم الجمهورية العربية السورية، يرفرف على إحدى النقاط العسكرية التابعة للجيش العربي السوري” هنا يغمرك شعورٌ من نوع آخر عند رؤيتُك لحماة الأرض والعرض وتعود ثقتك بالنصر كما لو أن الحرب انتهت بشكل كامل .
تمضي إلى حلب متجاوزاً تاريخ إرهاب خلف دماراً كبيراً على جانبي الطريق إليها، تبدو لك كواحدة من أجمل الأساطير التي قرأت عنها، لتغيب كل الكلمات عن الوصف فمن شاهد ليس كمن سمع، جمال المدينة وعراقة تراثها وحضارتها تفرض عليك احترامها قبل محبتها، لتدرك ما يتجاوز مفهوم حرب قد استهدفت الشهباء، فهي ليست حرباً استهدفت المدينة و صناعتها و أهلها، بل كانت أيضاً استهدافاً للتاريخ و للحضارة، تدمير المدينة القديمة لم يكن مصادفة كذلك كانت حال محاولة السيطرة على قلعتها و لعل نبش القبور و التنقيب غير الشرعي على الآثار بريفها يتجاوز تجارة لبيع الآثار بل كان هدفاً تقف وراءه دول و كيانات وكانت بعثة أرسلتها اليونسكو إلى حلب قد أنهت تقييماً أولياً للخسائر في مواقع التراث العالمي، وفي مدينة حلب القديمة، وحول حالة المؤسسات التعليمية.وقام فريق اليونسكو على مدى أيام بجرد للخسائر الجسيمة التي تعرضت لها أماكن أثرية عديدة كالجامع الأموي والقلعة والمساجد والكنائس والأسواق والخانات والمدارس والحمامات والمتاحف وباقي مباني حلب الأثرية، وبحسب تقدير أولي فقد تعرض 60% من أحياء مدينة حلب القديمة إلى خسائر جسيمة، دُمر منها 30% تدميراً كاملاً، هذا في العام 2017 فقط .
الاستهداف لم يكتف بالحجر والبشر بل تخطى ذلك إلى ماتم وصفه بالثروة التي لا تقدر بثمن حيث قالت مجلة “وايرد” الأميركية، إنّ بعض العاملين في المركز الدولي للبحوث الزراعية السورية في المناطق الجافة، “إيكاردا” سرقوا بذور أهم المحاصيل على الأرض، من بنك الجينات في “تل حديا” جنوب حلب، عام 2014 .
وأضافت في تقرير لها ، أن البذور السورية هي لأهم المحاصيل على الأرض التي وصفتها بأنها ذات قيمة لا تقدر بثمن، وتشمل القمح، الحمص والعدس والبرسيم، وصلت في العام نفسه إلى قبو “سفالبارد” العالمي للبذور، في القطب الشمالي .
بالرغم من حجم الدمار والإرهاب والتطرف الذي تعرضت له حلب، لكن إرادة مواطنيها حاضرة و بقوة من خلال متابعتك لحجم البناء وإعادة الإعمار الشعبية، و التي تكاد تسبق تلك الرسمية، تجد هذا في الجامع الأموي الذي حل به الدمار والآن تتم عملية الترميم وتجميع أحجار المئذنة ، كذلك الحال بالنسبة للأسواق والمدينة القديمة .
لا يمل الأهالي هنا العودة إلى الحياة، كل ذلك يظهر لك أن الإصرار على إعادة الألق لهذه المدينة من الناحية الحضارية و الاقتصادية والثقافية بات هدفاً أول ورهاناً جديداً على الانتصار ، وكانت منظمة اليونسكو قد أشادت بصمود أهالي حلب وبالجهود التي بذلها العاملون في مجال التراث من أجل حماية هذه الأماكن التراثية في وقت النزاعات، واتخاذهم إجراءات طارئة لترميم الآثار المدمرة ..
لا يمكن لك أن تزور حلب دون أن تدخل قلعتها، هي واحدة من صور صمودها خلال الحرب و أحد أكبر الشواهد على تاريخها و تفردها، عند المدخل الرئيسي للقلعة تدخل زمناً مختلفاً و كأنك داخل لأحد أجمل كتب التاريخ، فيها تتنوع الزخارف و النقوش من العهد البيزنطي والروماني والأيوبي وغيرها لتصل إلى وقتنا الحالي، كل محاولات التدمير الممنهج لم تستطع سلب المدينة القديمة و القلعة سحرها.
مدير متحف ألدونبورغ، والمسؤول في هيئة المتاحف الألمانية البروفيسور السوري مأمون فنصة، في تصريحات صحافية سابقة، أن 80% من سوق المدينة الأثرية، و40% من البيوت القديمة في حلب قد انهارت، وأشار إلى قيام خارجين على القانون وعناصر العصابات المنظمة بتهريب آثار حلب القديمة إلى الخارج .
تتجه نحو النقطة الأعلى من القلعة تستطيع ان ترى واحداً من أهم المشاهد و لا أبالغ هنا إن قلت أنك أمام أهم لحظات حياتك، هي فرصة نادرة بأن ترى كامل مدينة حلب دفعة واحدة، تخيل كل كم الجمال و السحر و التاريخ الذي سيجتمع امامك بنظرة واحدة، عند هذه النقطة تحديداً “أعلى القلعة” تجد جواب سؤالٍ قد لا يغيب طرحه عن مُخيلتك .. كيف استطاع عدد قليل من الجنود الأبطال للجيش العربي السوري من الصمود سنوات طويلة أمام أعداد كبيرة من الإرهابيين المزودين بكل أنواع الأسلحة وتقف وراءهم دول بأكملها ؟
الجواب هنا، تختصره لك نظرةٌ من رأس القلعة، ترى فيها حلب .. دفعةً واحدة