ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحريرعلي قاسم:
يجترّ الخطاب الأميركي في طريق عودته إلى المربع الأول النفخ في الأسطوانة ذاتها، فيستعيد مفردات ومصطلحات عبثية لا طائل منها، وتحاكي المواقف الأميركية المتلونة والمتباينة هرطقة سياسية تجاوزتها التطورات كما جاءت على لسان الرئيس أوباما،ومن قبله وزيره كيري، وهي تستعجل الانقلاب على جنيف لتنهي المهادنة المسكوت عنها مع الموقف الروسي، ولا تتوقف عند حديث المسؤولين الأميركيين الممجوج، عندما ينصّبون أنفسهم ناطقين باسم الشعوب وما تريده.
فالغمز الأميركي من قناة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف واتهامه بالسباحة عكس تيار الرأي العام لا يعكس الرغبة في العودة إلى الزاوية التي تمترست الإدارة الأميركية فيها، وافتعال مجابهة سياسية ودبلوماسية فحسب، بل يحاول أن يرسم ملامح عودة المواجهة الباردة أحياناً مع هباتها الساخنة التي ازدادت وتيرتها في الأيام الأخيرة، وقد تكون خطوة أخرى في رحلة العودة إلى التخندق حيث كان الأميركي يقف.
ليست المرة الأولى التي تتصدى فيها جينفر بساكي الناطقة باسم الخارجية الأميركية لهذه المهمة التي تعبّر خلالها الولايات المتحدة الأميركية عن ضيقها وحرجها من المواقف الروسية، خصوصاً حين تقترن بهذه اللهجة المستفزة ومحاولة اللعب على المفردات والألفاظ للتغطية على فشل يلامس الدبلوماسية الأميركية، في محاولة اصطناع تيار بدت حتى الآن غارقة فيه بمفردها وتزداد عزلتها.
الواضح أن الأميركي اليوم هو ذاته الذي كان بالأمس وقبله، وحدود التغيير لم تلامس جوهر موقفه، وما جرى كان عبارة عن رتوش شكلية غايتها الأساسية توفير ما يتيح للأميركي أن يخرج من عنق الزجاجة، وما عدا ذلك لا يمكن التعويل عليه، بل ليس فيه من ضمانة فعلية بعدم العودة مجدداً إلى عنق الزجاجة.
فالأطراف التي يقف خلفها داعماً ومناصراً من المرتزقة إلى الإرهابيين المنظمين فعلياً، وصولاً إلى الدول التي ترعاهم وتمولهم، مروراً بالدول التي تشجعهم وتشجع تمويلهم وتوفر الحماية السياسية والإعلامية وتستضيف قادتهم، جميع تلك الأطراف لا تريد الحل السياسي ولا تبحث عنه، وعجز الأميركي واضح في فشله بإيجاد ما يمكن التعويل عليه ليكون ممثلا لهم وسط هذا التنافر الحاد والمقدرات المحدودة والتأثير المتواضع على المجموعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية القائمة.
وبالتالي فإن الأميركي الذي فشل في أن يقدم مقاربة فعلية لأي حل سياسي، ولجأ إلى الروسي كي يمنحه طوق نجاة سياسياً، لا يزال يحبو بصبيانيته في تلمس الخطوات الأولى، وكلما تحرك خطوة نحو الأمام تعثر وسقط، وكلما حاول أن ينهض ثمة من يحول دون ذلك، ويمنعه من التقدم أكثر، خصوصاً أن خطواته المنفردة التي اقتضت بالضرورة الابتعاد عن تلك الأطراف الرافضة أساساً لفكرة الحل السياسي، تختفي من سياق الممارسة الأميركية بالتدريج.
ومعضلة الأميركي لم تتغير منذ اللحظة التي قرر أن يكون فيها طرفاً مؤججاً لما يجري، وأن يقف خلف الدول الراعية للإرهاب والداعمة له في المال والسلاح والمرتزقة من أنحاء العالم، وحتى عندما قرر أن يكون بعيداً عنهم أو فكر في «النأي بنفسه» خارجهم لم يستطع أن يتخلص من التركة الثقيلة التي أورثته إياها أدواره الاستعمارية وأطماعه الممتدة عميقاً في جذر سياسته وأدوات دبلوماسيته.
قد يتخيل الأميركي شكل التيار وقد يعتقد أو يتوهم اتجاهه، لكن ليس بمقدوره على الإطلاق أن يدعي مجاراته ولا أن يعبث في طوق النجاة الذي يظل محكوماً بالقبضة واليد والأصابع التي نسجت أفكاره وحضرت معطياته وفرضت أيضاً مناخه وظروفه، إذ لم يسجل التاريخ يوماً أن العدوان استطاع أن يكسب الرأي العام، فيما الشواهد ماثلة كيف كان منع العدوان ورفضه هو التيار السائد لدى الرأي العام.
ربما اقتضت حملة العلاقات العامة وتكييس وجه الخروج الأميركي من المأزق وبالتالي القبول بما أملته المعادلات الناشئة على المسرح الدولي هذه المقاربة الأميركية التي تطفو على السطح، لكنها على المقلب الآخر كانت تضع سقوفاً، وتحدد مشاهدات عينية قائمة على فرضية الاستمرار في ضخ جملة من الأكاذيب المتعلقة بتفاصيل جاءت من خارج النص، ولا علاقة لها بأي مزايدة سياسية، بقدر ما تحكم بنية التوجه السياسي القائم على اختلاق الذرائع، لتبرير وتسويغ السلوك والممارسة المرفوضة في رحلة العودة إلى المأزق ذاته، وإن تغيرت الزجاجة أو تبدل عنقها.
a.ka667@yahoo.com