الثورة – سيرين المصطفى:
مع عودة آلاف السوريين إلى مدنهم وقراهم بعد سقوط النظام السابق، وجد الأهالي أنفسهم في مواجهة واقع خدمي هشّ، تآكلته سنوات القصف والدمار والنزوح. فالأبنية المهدّمة، والبنية التحتية المتآكلة، والخدمات المعطلة، شكّلت تحديات يومية تتطلب استجابة فورية ومصادر تمويل كبيرة.
في ظل هذا الواقع، بدأت تظهر مبادرات أهلية محلية، سعت إلى إعادة تأهيل المناطق المتضررة من خلال أدوات بسيطة ولكن فعالة، كان أبرزها مبادرة “صندوق الخدمة” التي انطلقت كمشروع مجتمعي قائم على التبرعات، بهدف دعم الجهود الخدمية والتنموية بشكل مباشر.
في نيسان/أبريل الماضي، أطلقت مدينة معرة النعمان أولى تجارب “صندوق الخدمة”، بدعم من وجهاء وتجار المنطقة، حيث تمكّن الصندوق من تنفيذ مشاريع هامة، أبرزها تعبيد أجزاء من الطريق الدولي، وإنشاء شبكات صرف صحي، وإنارة الشوارع الداخلية، وتركيب كاميرات مراقبة لتحسين الأمن والخدمات.
لاحقاً، تبنّت مدينة سراقب التجربة ذاتها في حزيران/يونيو، بمساهمة مجتمعية من الأهالي وعدد من التجّار المحليين، وشهدت المدينة تنفيذ أعمال صيانة للطرق وشراء آليات لجمع النفايات وترحيل الأنقاض، مما ساهم في تحسين بيئتها الخدمية بشكل واضح.
وفي أحدث خطوة، عقد اجتماع موسّع في مدينة بنش جمع عدداً من مسؤولي الكتل المحلية والتجار، بحضور رئيس غرفة تجارة إدلب، تم خلاله التوافق على إطلاق مشروع “صندوق خدمي” جديد يركّز على مشاريع تنموية مستدامة تلبي احتياجات المدينة، ويعزز الشراكة بين القطاع الاقتصادي والمجتمع المحلي.
تعتمد آلية عمل “صندوق الخدمة” على التبرعات المباشرة من أبناء المدينة المقيمين والمهجرين، إلى جانب دعم التجار والمؤسسات الاقتصادية، لتشكيل قاعدة مالية تمكّن من تنفيذ مشاريع البنية التحتية العاجلة.
وتُشرف لجان محلية على توجيه هذه الموارد نحو مشاريع محددة مسبقاً، وفق أولويات المدينة، مع ضمان الشفافية والمحاسبة في اختيار المناقصات وتنفيذ المشاريع، وهو ما شجّع على تكرار التجربة في مناطق أخرى من ريف إدلب.
لا تقتصر أهمية هذه المبادرة على ترميم الطرق أو شبكات المياه، بل تتجاوزها إلى بناء الثقة من جديد بين أبناء المناطق المتضررة، وتعزيز مفهوم العمل الجماعي والتكافل المحلي. فمشروع “صندوق الخدمة” بات رمزاً لاستعادة زمام المبادرة بأدوات ذاتية، دون انتظار طويل للمساعدات الخارجية أو تدخلات المنظمات.
ويرى مراقبون أن المبادرة تمثّل نقلة نوعية في العمل المدني السوري، إذ تُعيد إحياء قيم “الفزعة” والتضامن التي شكّلت عماد المجتمعات المحلية في الأزمات، وتعزز من مشاركة الأهالي في القرار الخدمي والتنموي.
مع النجاحات التي حققتها التجربة في مدن إدلب، تتجه الأنظار نحو تعميمها في قرى ومناطق أخرى تعاني من ضعف شديد في الخدمات الأساسية. وتبدي العديد من الفعاليات المحلية رغبة جدّية في تكرار النموذج، بما يوفّر حلولاً سريعة ومستدامة لمشكلات الكهرباء والمياه والنظافة وغيرها.
في الوقت الذي لاتزال فيه البلاد ترمّم جراحها بعد أكثر من عقد من الحرب، يبرز “صندوق الخدمة” كمبادرة مجتمعية تنبع من قناعة بأن إعادة الإعمار تبدأ من الداخل، وبأيدي السكان أنفسهم، وأن التنمية لا تحتاج دوماً إلى مؤسسات ضخمة، بل إلى إرادة محلية ووعي جمعي وشراكة حقيقية.