الثورة – رغدة خويص:
لم تعد الأسرة وحدها هي من يشكل وعي الطفل ويبني شخصيته كما كان الحال في السابق.
ففي زمن تتزاحم فيه الشاشات، وتتنافس فيه المنصات الرقمية على جذب انتباه الأطفال، تراجع الدور التربوي للأسرة لمصلحة “مربٍ جديد” غير مرئي، فالتكنولوجيا بهذا العصر، لا تُبث القيم من الأم أو المعلم فحسب، بل من المؤثرين، الألعاب الالكترونية، والمحتوى الرقمي السريع، وكل ذلك في غياب رقابة حقيقية أو معيار تربوي واضح.
وبالتالي يبقى السؤال، من يربّي أبناءنا فعلاً.. هل بات الهاتف الذكي هو المربّي الأول.. وهل تحوّلت التربية من تفاعل إنساني حيّ إلى تجربة بصرية عابرة لا يمكن السيطرة عليها؟ أسئلة يطرحها الواقع اليومي ويُجيب عليها المختصون من ميادين التربية والنفس والاجتماع.
الأسرة تتراجع.. التكنولوجيا تتقدّم
كان البيت في السابق هو المعهد الأول، حيث يتلقى الطفل دروسه الأولى في الأخلاق، التواصل، والانتماء، أما اليوم، فقد غزت التكنولوجيا غرف النوم والجيوب، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياة الطفل، منذ سنواته الأولى.
الإشعارات، مقاطع الفيديو، وتطبيقات الألعاب، كلها تسحب الطفل إلى عالم رقمي يتعلم منه ويقلّده، من دون وساطة من الأهل أو المدرسة.
تشير دراسات اجتماعية إلى أن الأطفال والمراهقين في المنطقة العربية يقضون ما بين 6 إلى 9 ساعات يومياً أمام الشاشات، مقابل وقت ضئيل يقضونه مع أسرهم.
في استطلاع رأي شمل أولياء أمور، أقرّ أكثر من 70 بالمئة أنهم يواجهون صعوبة في ضبط استخدام أبنائهم للأجهزة، بينما قال 50 بالمئة منهم إنهم لا يجدون الوقت الكافي للحوار أو التوجيه.
تماضر شاهين – اختصاصية تربوية بينت أن الطفل الذي يقضي ساعات طويلة أمام الشاشات معرض لتراجع قدراته الذهنية والاجتماعية، منوهة بأن المشكلة ليست في التكنولوجيا بحد ذاتها، بل في غياب التوجيه ووجود محتوى مفتوح قد يتضمن عنفا أو مفاهيم سلوكية غير أخلاقية.. كثير من الأطفال يقلدون المؤثرين، ويكتسبون منهم أنماط تفكير وسلوكيات لا تمت لثقافتهم أو أسرتهم بصلة.
وتؤكد شاهين أن الحل ليس في المنع، بل في التوجيه الذكي، ولاسيما أن التكنولوجيا أداة، لكنها لا تربي، من يربي هو القلب الحاضر والعقل الواعي والقدوة الصادقة.
تحصين النفس أولاً
الاختصاصية النفسية الدكتورة غنى نجاتي، ترى أن حرمان الأطفال من التكنولوجيا لم يعد خياراً واقعياً، لأن الحياة أصبحت مترابطة رقمياً، حتى في أبسط تفاصيلها، من الدراسة إلى الترفيه، لكنها تحذر من الانسياق الأعمى وراء هذا الواقع.
وبينت أن الطفل لا يمتلك في سنواته الأولى أدوات التمييز بين السلوك السليم والخاطئ، وبالتالي هو أكثر عرضة للتقليد الأعمى لما يراه على الإنترنت، سواء كان محتوى عنيفاً، أم لغة لا تليق، أم سلوكيات لا تنسجم مع ثقافته ومجتمعه.
وأوضحت أن المراهقين أيضاً فئة هشة، إذ يبحثون باستمرار عن القبول الاجتماعي والانتماء، وهذا يجعلهم عرضة لتأثير الإعلام الرقمي، بما فيه من محتوى مضلل وخطير، ونوهت بأنه رأينا كيف تؤدي بعض الترندات المنتشرة على الإنترنت إلى مآس حقيقية، كحالات الوفاة المرتبطة بتحديات مثل ‘كتم النفس’
وتختم نجاتي حديثها بتحذير ورسالة مفادها: ليس كل ما هو رائج يستحق الاقتداء، على الأهل أن يكونوا الحصن النفسي والمعرفي لأولادهم، من خلال المرافقة لا المراقبة فقط، وبناء الثقة، لا الخوف.
تحديات تزداد تعقيداً
المخاطر لا تتوقف عند حدود الإدمان الرقمي أو المحتوى غير المناسب، وبالتالي هناك تحديات مستقبلية أكبر تنتظر أبناءنا، منها: الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في التعليم والحياة، تآكل الهوية الثقافية وسط محتوى رقمي عابر للحدود، ضعف المهارات الاجتماعية الواقعية نتيجة التفاعل الافتراضي، إضافة لانحسار التفكير النقدي بسبب التلقي السلبي للمعلومة.
وكذلك تهديدات الخصوصية والانكشاف الأخلاقي.. هل انتهى دور الأسرة؟..
الجواب: لا عند الخبراء والمختصين، لكن الأسرة بحاجة إلى إعادة تعريف دورها في زمن مختلف، إذ لا تنفع أدوات الرقابة القديمة، ولعل البديل هو المرافقة الرقمية الواعية، وتفعيل الحوار المستمر مع الأبناء، إلى جانب القدوة الإيجابية في التعامل مع التقنية، ووضع قواعد واضحة لاستخدام الشاشات، فالأبناء لا يحتاجون إلى سلطة تمنع، بل إلى قيادة تلهم.
التربية لم تختف.. لكنها لم تعد كما كانت، وإذا تراجع دور الأسرة اليوم، فبوسعها أن تستعيده غداً، شرط أن تواكب الواقع، وتشارك أبناءها عوالمهم الرقمية بدل أن تكتفي بمراقبتهم من بعيد.
ويبقى السؤال مطروحاً.. هل نربي أبناءنا فعلاً.. أم تركناهم لهواتفهم.؟