“سكر مسكنة”.. بين أنقاض الحرب وشبهات الاستثمار

الثورة – حلب:

في سهل كان يعج بصوت الحصادات ورائحة الشوندر السكري، يقف اليوم معمل سكر مسكنة شرق حلب، كهيكل صامت يروي قصة من قصص انهيار أحد أبرز الصروح الصناعية التي لطالما شكلت ركيزة مهمة للاقتصاد الزراعي والصناعي في سوريا، هذا المعمل، الذي كان قبل الحرب من أعمدة الاكتفاء الذاتي في إنتاج السكر، تحول اليوم إلى رمز لتقاطع الإهمال مع الاستثمارات المثيرة للجدل، وسط غموض حول مستقبله.

قوة إنتاجية هائلة

قبل عام 2011، كان معمل سكر مسكنة واحداً من أكبر معامل تكرير الشوندر السكري في الشرق الأوسط، إذ بلغت طاقته الإنتاجية اليومية نحو 4000 طن من الشوندر السكري، أي ما يعادل بين 400000 إلى 500000 طن سنوياً، هذا الإنتاج لم يأت من فراغ، بل من منظومة متكاملة ضمت آلاف الفلاحين ومئات الموظفين والعمال، فاق عددهم الإجمالي 25000 شخص، موزعين بين الإنتاج والإدارة والتسويق والدعم الفني.

وقد ساهم المعمل بما يزيد عن 10 بالمئة من إجمالي إنتاج السكر المحلي، وكان له دور مباشر في استقرار سعر العملة، إذ يذكر أحد مسؤولي الصيانة السابقين أن سعر صرف الدولار كان ينخفض إلى 44 ليرة سورية مع بداية كل موسم إنتاجي.

خلال سنوات الحرب، لم يسلم المعمل من الاستهداف والتخريب، وتعرض لما وصفته مصادر رسمية بـ”التدمير الممنهج”، شمل البنية التحتية، الشبكات الكهربائية، خطوط المياه والبخار، وحتى العنفات والمولدات التي قدرت قيمتها بملايين الدولارات.

في أيلول 2017، بدأت محاولات خجولة لإعادة تأهيل المعمل، حيث تم تنظيف الأنقاض، ترميم بعض البنى التحتية، وتقدير تكلفة إعادة التشغيل الجزئية بنحو 30 مليون دولار أميركي.

بين الوعود والتأخير

في عام 2021، تم التعاقد رسمياً مع مجموعة “القاطرجي القابضة” لإعادة تأهيل وتشغيل المعمل، ضمن خطة استثمارية أُعلن عنها بأنها ستعيد الروح إلى هذا المشروع الوطني، لكن الأمور لم تسر كما هو مأمول.

رغم توقيع العقد، واجهت الشركة المستثمرة عراقيل بيروقراطية وتأخيراً في تأمين المازوت، والحصول على إجازة الاستثمار، تقارير سابقة لمواقع إلكترونية أشارت إلى تأخير الردود الرسمية لأشهر طويلة، ما أعاق عمليات التشغيل.

اللافت أن الشركة نفسها واجهت اتهامات بعرقلة المشروع عمداً، وهو ما فتح باب التساؤلات عن دوافع التأخير، في ظل تاريخ للمجموعة حافل بالاتهامات والارتباطات السياسية، إلى أن توسعت أنشطتها لتشمل مشاريع صناعية كبيرة، منها مشروع ” أكبر تجمع صناعي في الشرق الأوسط ” في مدينة الشيخ نجار الصناعية بحلب، الذي يمتد على مساحة 3 ملايين متر مربع ويضم نحو 357 منشأة صناعية.

تحت المجهر

لا تثير مجموعة “القاطرجي” الجدل بسبب نشاطها الاقتصادي فقط، بل بسبب علاقاتها الوثيقة بالنظام المخلوع، وتورطها في تسهيل تجارة النفط مع تنظيم “داعش”، وفق تقارير أميركية، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات اقتصادية على المجموعة.
كما عين أديب ميالة، الحاكم الأسبق لمصرف سوريا المركزي، مديراً عاماً في المجموعة، وهو شخصية شغلت الرأي العام في ملفات فساد ورشوة، ما زاد من الشبهات حول نوايا المجموعة في استثمار معمل سكر مسكنة.
بحسب أحد مسؤولي الصيانة السابقين في المعمل ويعمل حالياً في مديرية الصناعة المهندس محمود الشيخ طه، فإن المعمل لم يدخل الخدمة فعليا حتى اليوم، رغم بعض التجارب التشغيلية التي أُجريت، إلا أن غياب المادة الأولية، الشوندر السكري، وعدم توفر الدعم الزراعي اللازم للفلاحين، جعلا المشروع متوقفاً فعلياً.
وأشار الشيخ طه إلى أن عدد العمال قبل عام 2020 لم يتجاوز 40 عاملاً فقط، بينما كان بالإمكان توفير ما لا يقل عن 500 فرصة عمل مباشرة، إلى جانب آلاف الفلاحين العاملين في زراعة الشوندر.

صناعة استراتيجية تُهمل وسط الانهيار الاقتصادي

معمل سكر مسكنة لا يمثل مجرد مشروع صناعي، بل هو جزء من منظومة اقتصادية كانت تعتمد عليها البلاد لتأمين حاجات السوق المحلي وتقليل الاستيراد، إذ كانت معامل السكر في الرقة ودير الزور وسلحب تؤمن نحو 40 بالمئة من حاجة القطر من مادة السكر.
ومع توقف هذه المعامل، أصبحت البلاد أكثر اعتماداً على الاستيراد المكلف في ظل انهيار الليرة السورية، وانخفاض الإنتاج الزراعي، وارتفاع معدلات الفقر.

كما أن توقف مثل هذه المنشآت الصناعية يعني خسارة النواتج الثانوية التي كانت تستخدم كمواد علفية، وتوقف التعاون مع المؤسسة العامة للسكر في حمص، ما أدى إلى خلل في سلاسل التوريد والقطاع الزراعي ككل.
ما بين الصمت الرسمي والوعود المؤجلة، يبقى مصير معمل “سكر مسكنة” مرآة لحقيقة مرة: بلد لا يدعم فلاحه، ولا يصون صناعته، لا يستطيع أن ينهض.. ومع استمرار الوضع على ما هو عليه، يبقى السؤال الأهم: هل تعود صناعة السكر في سوريا إلى الحياة، أم يبقى معمل سكر مسكنة شاهداً على ما تبقى من اقتصاد يتآكل؟.

آخر الأخبار
ثلاث منظومات طاقة لآبار مياه الشرب بريف حماة الجنوبي الفن التشكيلي يعيد "روح المكان" لحمص بعد التحرير دراسة هندسية لترميم وتأهيل المواقع الأثرية بحمص الاقتصاد الإسلامي المعاصر في ندوة بدرعا سوريا توقّع اتفاقية استراتيجية مع "موانئ دبي العالمية" لتطوير ميناء طرطوس "صندوق الخدمة".. مبادرة محلية تعيد الحياة إلى المدن المتضررة شمال سوريا معرض الصناعات التجميلية.. إقبال وتسويق مباشر للمنتج السوري تحسين الواقع البيئي في جرمانا لكل طالب حقه الكامل.. التربية تناقش مع موجهيها آلية تصحيح الثانوية تعزيز الإصلاحات المالية.. خطوة نحو مواجهة أزمة السيولة تعزيز الشراكة التربوية مع بعثة الاتحاد الأوروبي لتطوير التعليم حرائق اللاذقية تلتهم عشرات آلاف الدونمات.. و"SAMS" تطلق استجابة طارئة بالتعاون مع شركائها تصحيح المسار خطوة البداية.. ذوو الإعاقة تحت مجهر سوق العمل الخاص "برداً وسلاماً".. من حمص لدعم الدفاع المدني والمتضررين من الحرائق تأهيل بئرين لمياه الشرب في المتاعية وإزالة 13 تعدياً باليادودة "سكر مسكنة".. بين أنقاض الحرب وشبهات الاستثمار "أهل الخير".. تنير شوارع خان أرنبة في القنيطرة  "امتحانات اللاذقية" تنهي تنتيج أولى المواد الامتحانية للتعليم الأساسي أكرم الأحمد: المغتربون ثروة سوريا المهاجر ومفتاح نهضتها جيل التكنولوجيا.. من يربّي أبناءنا اليوم؟