الملحق الثقافي:د. إبراهيم علوش*
تتخذ الليبرالية معانيَ مختلفةً على الصعد الاقتصادية والسياسية، فهي على الصعيد الاقتصادي حرية العمل والاستثمار والبيع والشراء من دون قيود، وحق الملكية الفردية وحصانتها، وهي على الصعيد السياسي حرية التعبير والاجتماع، وحق التساوي أمام القانون، واستقلالية القضاء، والانتخاب الحر لممثلين للشعب ينوبون عنه في تقرير شؤونه، وهي الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية لضمان منع الاستبداد، وهي تربط مشروعية الحكم برضا المحكوم، كما أن الليبرالية تعني على صعيد الفلسفة السياسية اعتبار الفرد مرجعية الحق والباطل والصح والخطأ وعدم تدخل الدولة أو المجتمع فيما يراه الفرد مناسباً له إلا بمقدار ما يمكن أن يضر به الآخرون.
على الرغم من أن جذور المفاهيم الليبرالية تمتد عميقاً في تاريخ الفكر والفلسفة إلى اليونان والشرق، فإن ذلك لا يهم كثيراً في الواقع، لأنها لم تتخذ صورة فلسفة شائعة تمثل مصلحة طبقة اجتماعية محددة في مرحلة تاريخية محددة إلا مع صعود الرأسمالية، وهي مرحلة عصر التنوير الأوروبي Age of Enlightenment، وكان الفيلسوف السياسي الأبرز المعبر عنها هو البريطاني جون لوك John Locke (1632-1704) الذي ما برحت أفكاره تُعد المرجعية الأولى للفكر السياسي الليبرالي الكلاسيكي.
قبل الدخول في الفرق بين الليبرالية السياسية من جهة والليبرالية الاجتماعية من جهةٍ أخرى، لا بد من تحديد الفرق بين الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية، وهو جوهر التناقض الذي زرع انشقاقاً عميقاً في التقليد الليبرالي وصولاً إلى تاريخنا المعاصر.
الليبرالية السياسية، كما جاء آنفاً، تنطلق من مفهوم دولة المواطنة، وحرية التعبير والاجتماع والإعلام، وممارسة المواطنين لسيادتهم على أرضهم من خلال ممثلين منتخبين، وحقهم بالتصويت العام، وبأن يحاكَموا محاكمة عادلة أمام قضاء مستقل وغير متحيز، ومحو الامتيازات الأرستقراطية (المرتبطة بالإرث الإقطاعي والكنسي).. ولننتبه جيداً إلى أن محور الليبرالية السياسية فيما يتعلق بعلاقة المواطن بالدولة هو فكرة المساواة، أي تساوي الحقوق والواجبات.
الليبرالية الاقتصادية، بالمقابل، تركز على حقوق الملكية وقدسيتها، والأسواق الحرة، والتجارة الحرة، والاستثمار غير المقيد، وباختصار، حق رأس المال في أن يفعل ما يريد، وهو جوهر فكرة الحرية في الفكر الليبرالي: مصلحة الطبقة البرجوازية. أما الحديث عن حرية المواطن في أن يأكل ويشرب ويلبس ويعيش كما يريد في حياته اليومية فلم يعد يُطرح اليوم إلا في مواجهة القيود الدينية والاجتماعية المحافظِة، وما عدا ذلك فإنه نوعٌ من ذر الرماد في العيون.
التناقض الذي نشأ في رحم الفكر الليبرالي، بعد انتصار الثورات البرجوازية في أوروبا الغربية، كان بين فكرة الحرية (الاقتصادية أساساً) من جهة، وفكرة المساواة (السياسية والاجتماعية أساساً) من جهةٍ أخرى، فـ”الحرية الاقتصادية” في ظل النظام الرأسمالي أفضت إلى نشوء طبقة برجوازية تملك من الإمكانيات والسلطات والنفوذ والتأثير والقدرة على التحكم بمخرجات النظام السياسي ما كان يحلم به الإقطاعيون والنبلاء حلماً، وهو ما حوّل شعار المساواة أمام القانون إلى أضحوكة في ظل تصاعد الفقر والبؤس والبطالة والأزمات الاقتصادية والتفاوت الطبقي في النظام الرأسمالي.
من هنا شكّلت النزعة الاشتراكية، ولاسيما في فرنسا في القرن التاسع عشر (كما مثلها الفلاسفة سان سيمون وفورييه وبرودون)، حتى قبل تبلور الفكر الماركسي، استمراراً تاريخياً لشعار المساواة في الثورة الفرنسية، ولكنه استمرارٌ اقتضى الانتقال من نقطة مرجعية إلى أخرى، أي من مرجعية الفرد إلى مرجعية الجماعة، وهذا شكل تحولاً في المنظور الفلسفي ذاته أفضى إلى اعتماد منظور أولوية مصلحة الجماعة على الفرد، وهو جوهر الفكر الاشتراكي، المناقض بالتعريف لليبرالية.
أنصار الحرية الفردية المطلقة في الاقتصاد من الليبراليين تحولوا إلى “محافظين”، كما في بريطانيا، أو كما في حالة الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، وهناك حالة أكثر تطرفاً هي الـ Libertarianism التي تنادي بالحرية الاقتصادية وانسحاب الدولة تماماً من الاقتصاد والمجتمع إلا بصفتها دولة حارسة، أي لممارسة الأمن والدفاع والقضاء، وهنالك صيغة أكثر تطرفاً من هؤلاء هي الدعوة لانسحاب الدولة حتى من الأمن والدفاع والقضاء وتسليم كل تلك الوظائف للقطاع الخاص، وهذا التيار له نفوذه وتأثيره، وهو يدعو لخصخصة السجون والشرطة والأمن إلخ.
وتسليم كل تلك الوظائف للقطاع الخاص، وثمة تجارب لخصخصة السجون في الولايات المتحدة، وبالطبع فإن الشرطة أو الحراسة الخاصة، ومن ثم الجيوش الخاصة، هي جزءٌ من هذا التوجه، الذي عممته العولمة عسكرياً فيما بعد من خلال الشركات المرتزقة الخاصة، مثل شركة “بلاكووتر” الأميركية، وشركة “سادات” التركية.
الليبرالية الاجتماعية هي تيار في الفكر الليبرالي يحاول مصالحة مفهومي الحرية الفردية والمساواة الاجتماعية، وبالتالي فإن لديه منظرين ومفكرين يجادلون بأن الحديث عن المساواة، من دون تحقيق شروطها، يحول الفكرة الديموقراطية إلى هراء، فلا معنى للحديث عن الحرية وتساوي الحقوق في ظل التهميش الاجتماعي والاقتصادي، ولهذا يرون أنه لا بد من تدخل الدولة لتحقيق تلك الشروط عبر التعليم المجاني والطبابة المجانية ودعم الفئات الأقل حظاً والأكثر تهميشاً في المجتمع وتأهيلها لكي تتمكن من ممارسة حقوقها التي ينص عليها القانون، ومن هؤلاء الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، والأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا الغربية، وهؤلاء قد يتساهلون مع تدخل الدولة في الاقتصاد لتحقيق هدف المساواة، وقد يتقبلون بدرجات متفاوتة فكرة الاقتصاد المختلط، ولكنهم ليسوا اشتراكيين، بل يعودون في النهاية إلى جذورهم الليبرالية، على عكس الاشتراكيين الذين انقلبوا على المرجعية الفردية إلى مرجعية جمعية.
الشق الكبير في الحياة السياسية في الغرب، على صعيد السياسات الاجتماعية والاقتصادية، هو بين هذين التوجهين، وهو ما يوصف خطأً باليمين واليسار في الغرب، أو في الكيان الصهيوني بين الليكود وحزب العمل سابقاً، ولهذا فإن تعبير ليبرالي في السياسة بات يُحفظ في الغرب اليوم لهذه الفئة (الساعية لمصالحة فكرة المساواة الاجتماعية مع فكرة الحرية الفردية)، أما الليبراليون المتطرفون في الاقتصاد على حساب المساواة السياسية فيعدون محافظين.
الليبراليون في السياسة في الغرب، باتوا يشددون اليوم على التعددية الثقافية وحقوق الأقليات واحتقار الحس القومي وإعلاء شأن التجارة الدولية كأداة لتحقيق السلام الدولي، وهو خط الإدارة الأميركية في ظل بِيل كلينتون أو أوباما، وهؤلاء يتبنون المدرسة “النيوليبرالية” في السياسة الدولية، أما الجمهوريون فيتبنون المدرسة “الواقعية الجديدة” في السياسة الدولية.
الخط الليبرالي الجديد ازدهر مع ازدهار فكرة العولمة، وعبور الحدود، وتجاوز القوميات، ولكن مع انتصار الصين في لعبة العولمة، ارتد الغرب إلى مدرسة “الواقعية الجديدة”، التي تركز على الأمن القومي.
كلاهما في النهاية يستند إلى مرجعية الفرد، التيار المحافظ، أو “الواقعي” (وكيسنجر من أبرز منظريه)، أم التيار الليبرالي الاجتماعي، الذي يحاول التخفيف من وطأة الرأسمالية وإفراطها وأزماتها الاقتصادية بشيء من تدخل الدولة في الاقتصاد، من خلال الضريبة التصاعدية وفرض فكرة المسؤولية الاجتماعية على الشركات الكبرى وما شابه، ولكن الليبرالي مرجعيته فردية في النهاية، بمعنى أن ما يصح وما لا يصح يُقاس أولاً بمصلحة الفرد المجرد، الذي يُسمى فلسفياً “حقوق الإنسان”، أي حقوق الإنسان الفرد.
المرجعية القومية أو الاشتراكية بالمقابل هي حقوق الجماعة، حقوق الأمة، أو حقوق الطبقات الشعبية، والمرجعية الوطنية هي حق الوطن، والعبرة ليست في أن الليبراليين يرفضون بالمطلق حقوق الجماعة، ولا في أن القوميين أو الاشتراكيين يرفضون بالمطلق حقوق الفرد، بل في تحديد الأولويات، أي هل تأخذ حقوق الجماعة الأولوية أم حقوق الفرد في القانون والسياسة؟
وهذا هو بالضبط ما يفرق ما بين الليبرالي وغير الليبرالي اليوم، وإعطاء الأولوية للحق العام هو ما يجعل المرء قومياً أو اشتراكياً، وإعطاء الأولوية للحقوق الفردية هو ما يجعل المرء ليبرالياً.
في الولايات المتحدة مثلاً حدث أن تم تبرئة أو تخفيف الحكم على متهمين، ألقي القبض عليهم بالجرم المشهود متلبسين، والدماء تسيل على أيديهم، وفي أيديهم سلاح الجريمة، لأن الشرطي الذي ألقى القبض على المتهمين، في خضم معركة دموية معهم، سقط فيها زملاؤه قتلى وجرحى إلى جانبه، نسي أن يقرأ لهم كمتهمين حقوقهم الفردية المعروفة باسم Miranda Rights: You have the right to remain silent. Anything you say can and will be used against you in a court of law. You have the right to an attorney. If you can’;t afford an attorney, one will be appointed for you.
يبقى ما سبق نقطة خلاف بين الليبراليين السياسيين/الاجتماعيين من جهة والمحافظين من جهة أخرى تعكس ذاتها في الكثير من الأفلام الأميركية، وقد شكَّلت مادة لردة فعل محافِظة على الليبراليين الاجتماعيين، ولكن كذلك يمكن أن تجد مثلاً أن البث التلفزيوني للبرامج المعهودة توقف لأن قطة وقعت في بئر، ليصبح الخبر العاجل هو تغطية عملية إنقاذ القطة إعلامياً، وهو ما يمكن أن يستمر ساعة أو ساعتين، لتتوج النهاية السعيدة بتصفيق الجمهور المتابع لعملية إنقاذ القطة وهذه ليست سفاهة، بل نتيجة طبيعية للتركيز على الحق الفردي على حساب الحق العام.
أما إذا تحدثت عن قضية شعب، عن قضية فلسطين مثلاً أو السكان الأصليين للولايات المتحدة الذين أبادهم المستعمرون الأوروبيون، أو عن مليون أو مليوني عراقي قضوا بالعقوبات الأميركية على العراق، أو عن حصار سورية اليوم، أو السطو الأميركي على نفط شرق الفرات وغازه، فإن ذلك يصبح قضية “خلافية” شائكة ليس من الذوق بشيء طرحها في اللقاءات الاجتماعية، وتلك هي النتيجة الطبيعية للفكر الليبرالي. ولنلاحظ هنا كم من مثقفينا ويساريينا العرب يتبنون مرجعيات ليبرالية في الجوهر.
خلاصة الفكر الليبرالي في نهاياته المنطقية، كما لخصها الشاعر السوري أديب إسحق في القرن التاسع عشر، هي:
قتلُ امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتفر
وقتلُ شعبٍ آمنٍ مسألة فيها نظر
وكما صاغت الفكرة رئيس وزراء بريطانيا الأسبق مارغريت ثاتشر في مقولتها الشهيرة: There is no such thing as society. There are only individuals.
أي لا يوجد شيء اسمه مجتمع. ثمة أفرادٌ فحسب.
في الخلاصة، أجهض الغرب بالعنف والتآمر كل محاولة عربية لتحقيق النهضة العربية، من مصر إلى العراق إلى سورية إلى غيرها، وبالتالي فإن التطور الطبيعي من الإقطاع للرأسمالية انقطع عندنا، فلا خيار إلا قيام قوة راعية بتحقيق المشروع النهضوي، قوة مركزية، من فوق، تماماً كما حاول محمد علي باشا أن يفعل في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكما فعل بطرس الأكبر في روسيا. وهذه القوة ليست سوى الدولة صاحبة مشروع النهضة القومية.
* كاتب قومي عربي
التاريخ: الثلاثاء23-2-2021
رقم العدد :1034