الملحق الثقافي:حبيب الإبراهيم:
لا شكَّ أن الحرب العدوانيّة الشرسة التي شُنّت على سورية، هي حربٌ مركّبة، معقّدة، متداخلة، متعدِّدة الوجوه، أراد منها الأعداء ضرب البنى الحضارية والثقافية والمعرفية للدولة والمجتمع، وصولاً إلى التفتيتِ والتشرذم والإلغاء، ولأنَّ لكلِّ حربٍ آثاراً سلبيّة، وانعكاسات لا تنتهي بانتهائها، بل قد تستمر لسنواتٍ أو عقود، لا بدَّ لنا من السعي للخروج من الحربِ التي شُنّت علينا، وبأقلِّ الخسائر، وإعادة إعمار ما دمرته من بنى معرفية وثقافية، وبنى تحتية، وهو أمرٌ يُعدُّ من أولويات منظومة العمل القادمة، ويتطلَّب الكثير من الجهود الصادقة التي يجب على الجميع تحمّل مسؤولياتها بكل همّة واقتدار.
نعم، هذا ما علينا جميعاً أن نقوم به، إزاء النتائج الكارثيّة التي هي مفرزات طبيعية للحرب الكونيّة التي شنّها أعداء سورية، للنيل من مواقفها ومبادئها، ودورها التاريخي والحضاري، حيث أرادوا، ومن خلال مشغّليهم وأدواتهم على الأرض، أن تكون حرباً متعددة الوجوه، متنوعة الوسائل والأساليب، فقد استهدفت المنظومة القيمية والفكريّة والأخلاقية للشعب السوري، الذي يشكّل نسيجاً اجتماعيَّاً يستمد قوتّه وتماسكه وحيويته، من خلال تنوعه الغني ثقافياً وحضارياً.
هذه الحرب لم تكن حرباً عبثية، فهي حرب مضبوطة الإيقاع، محدّدة الأهداف. هي حربٌ على الهوية الوطنية، وعلى الانتماء الوطني والحضاري الموغل في القِدم. الانتماء الذي يمتد لآلافٍ من السنين التي قدّمت سورية خلالها للإنسانية، عصارة الفكر والثقافة والمعرفة.
إنّ الدور المنوط بالثقافة والمثقف ما بعد الحرب، لا يقلُّ أهمية عن دوره خلال الحرب، لأن وقع الكلمة يجب أن يكون، أكثر تأثيراً على المتلقي الذي يعاني ما يعانيه من فقد وحرمانٍ وتشوّه للفكر والمعرفة.
على المثقف أن يكون طبيباً، في تشخيص الداء ووصف الدواء، من خلال الكلمة المعبّرة. الكلمة الصادقة الدافئة التي تبلسم الجراح. الكلمة التي تبعث الأمل في النفوس، وتنتزع الياس والتشاؤم والروح السلبيّة التي رافقت هذه الحرب بكل مفاصلها وحيثياتها.
إن بناء الوعي وتحصين الفكر، وتعزيز منظومة القيم الأخلاقية والثقافيّة، من الأولويات التي يجب أن يهتمُّ بها مثقف ما بعد الحرب، وبالتالي يجب عليه أن يكرّس هذا الفكر قولاً وفعلاً، بعيداً عن التنظير والأبراج العاجية، ولا نجاح في خطة عمله إلا من خلال نشر ثقافة المحبة والتسامح والإخاء، ونشر الفكر التنويري بعيداً عن التعصب والتشدُّد، وتبنِّي القضايا الوطنية، إذ لا ثقافة بلا قضية تشكِّل نقطة الانطلاق والارتكاز، وصولاً إلى القضايا الوطنيّة الكبرى، ولا قضيّة بلا مثقف يدرك حجم المسؤولية، ويعي أهمية الدور المنوط به، كونه يمتلك فكراً منفتحاً خالياً من الحقد والتعصب. فكراً يحترم الآخر ويمد له يد العون والمساعدة للمشاركة في بناء الوطن.
إنّ المهمة الأساسية للمثقف، تكمن في ممارسته دوراً تثقيفيَّاً تنويرياً، في إطار التحصين الفكري والمعرفي، وهذا الدور يؤخذ ولا يُعطى، فعندما يتخلى المثقف الحقيقي عن ممارسة هذا الدور بوعي ومسؤولية، سيأتي من يشوّه ويضلّل ويفبرك، ويزيد من مساحات السواد القاتمة.
على المثقف أن يركّز على إعادة بناء الإنسان، وامتلاك مشروع ثقافي، وفق استراتيجية وطنيّة قابلة للتجدد والحياة، وهذا المشروع يرتكز بالدرجة الأولى على القيم الوطنية، والمبادئ الأخلاقية المتأصِّلة المستمدة من تاريخنا وحضارتنا العريقة، ونبذ كل أشكال التعصُّب والحقد والكراهية والإقصاء، وإعادة بناء ما هدمته الحرب، من قيمٍ فكرية وثقافيّة ومعرفيّة، ونشر ثقافة المحبة والتسامح والإخاء.
ما ينتظر المثقف الحقيقي، أن يكون في الطليعة، وفي مقدمة من يرسم ويخطط وينفّذ المشروع الثقافي الوطني، ومواجهة التحديات الكبرى وفق أسس ومنهج علمي دقيق وواضح، قابل للقياس والتنفيذ بأدواتٍ محليّة ذاتية، تعكس الواقع المعاش كما هو، فصورة المثقف الحقيقية، وبكل تفاصيلها وحيثياتها، يجب أن تعكس صورة المجتمع الذي هو جزءٌ مهم من مكوناته، وعليه النهوض بهذا الواقع، بكلِّ ما يملك من أساليب وخطط ورؤىً مستقبلية.
وبالتالي على المثقف في مرحلة ما بعد الحرب، مراجعة دقيقة ومتأنِّية للمشهد الثقافي الذي أصابه ما أصابه من تشوّه، وتحليل معطياته الحقيقية ودراستها بشفافية ووضوح، وتقديم صيغ جديدة للعمل الثقافي تتناسب مع المرحلة الجديدة، والمعطيات المستجدة، بعيداً عن المحسوبيات والفردية والآفاق الضيقة والذهنية المغلقة.
إنّ العمل على بناء هذا الفضاء الثقافي، وفق أسس ومعايير وطنية، تكرِّس حب الوطن كقيمة كبرى في نفوس وعقول الناشئة، يتطلَّب عملاً تشاركياً تشكل الثقافة مع التربية والمؤسسات الوطنية الأخرى، أحد أهم أقطابه الفاعلة، وصولاً إلى مجتمعٍ معافى، تسوده المحبة والتسامح والعدالة الاجتماعية التي هي مفتاح التقدم والازدهار.
التاريخ: الثلاثاء23-2-2021
رقم العدد :1034