الفكر القومي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر

 الملحق الثقافي:د. عدنان عويّد*

كانت الامبراطورية العثمانية، تتألف من قومياتٍ وأجناسٍ مختلفة بعاداتها ولغتها وانتماءاتها الحضارية، ومصالحها السياسية والاقتصادية والثقافية، وقد مورس عليها القهر والإقصاء طوال فترة حكم الامبراطورية العثمانية المليّة، وما تاريخ الشعب العربي تحت مظلَّتها، إلا جزء من تاريخ قهرِ وظلم هذه الشعوب، وخاصة في مشرق الوطن العربي، سورية الكبرى والعراق، وقد ظلّ هذا الوجود القهري حتى قيام الثورة العربية الكبرى 1916.
مع بدء وصول الرأسمالية الأوروبية، إلى مرحلة الامبريالية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتزايد حدّة اختراقها للامبراطورية العثمانية، “الرجل المريض”، يلمس المطَّلع، التأثير الواضح والمباشر لهذا الاختراق، حيث نجم عنه تدمير لأنماطٍ إنتاجية لها تاريخها شبه الثابت، من التخلف القائم في بنية الدولة العثمانية.. تدميرُ وتفكيك كلّ الوضعيات والمتّحدات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية الموروثة، بكل ما تحمله من تشوهات وتهميش وإلحاق وتبعية.
ما حدث للبلاد العربية مع الاختراق الأوروبي، تحت مظلة شعارات التمدّن، التعليم، التبشير، وغير ذلك، كان له تأثيره من الناحية العملية، فقد تمّ إخراجها كعالم قديم من عزلتها وسياقاتها الطبيعية الخاصة، لتندمج في عمليات التقسيم الدولي الجديد للعمل. التقسيمات التي كانت تجري بسرعة في كلِّ الاتجاهات والمستويات، داخل الامبراطورية العثمانية بشكل عام. (1)
في تلك الفترة، وتحت مظلة التقسيم الدولي الجديد للعمل غير الديمقراطي، انحصر دور تركيا في تقديم المواد الأولية وتصريف المنتجات الصناعية الأوروبية لا أكثر، ومما ساعد على خلق هذه الوضعية من التبعية، الضغط الأجنبي الخارجي والداخلي المتواصل على الدولة العثمانية، اعتباراً من إصدار خط “كلخانة” 1839م، وصولاً إلى خط “همايون” وقانون “الطابو” 1856م، فبموجب هذه القوانين، فُرضت على الدولة العثمانية التزامات، تقدم من خلالها تسهيلات وامتيازات اقتصادية وسياسية واجتماعية لأوروبا، وأبرز هذه التسهيلات، فتح الباب واسعاً أمام الرأسمال الأوروبي، ليمارس نشاطه بكلِّ حرية داخل أملاك الامبراطورية. (2)
يقول أحد الأوروبيين المقيمين في لبنان، عن الاختراق الأوروبي والانفتاح الاقتصادي الذي أصاب الولايات العثمانية ومنها لبنان: “إن مخازن هذه المدينة مليئة بالسلع من مصانع فرنسا وأميركا، ويكاد السائح يجد في كلِّ شارعٍ من شوارعها سلعاً وبضائع من جزر الهند الغربية.. أقمشة قطنية من انكلترا، وأجواخ من مانشستر، وأقمشة أسكتلندية، وحرائر فرنسية، ومناديل سويسرية، والذين يعرفون كيف كانت بيروت من سنة 1853 الى 1855، يعرفون أن الفرق أصبح كمنتصف الليل ومنتصف النهار” (3).
أيضاً، حالة النشاط الاقتصادي، وتحقيق الأمان للتاجر بعد خط “همايون” 1856، ثم إعطاء الاستقلال الذاتي لبعض الولايات ذات التركيبة الدينية المعقدة طائفياً، ومنها بيروت بالذات، وخاصة بعد الحوادث الدامية (1845-1860).
هذه العوامل كلّها، شجَّعت بعض المغتربين اللبنانيين، للعودة من البرازيل وأميركا وأستراليا، وهم يحملون المال والفكر السياسي الديمقراطي.
إذاً، مع اختراق الرأسمال الغربي للساحة الاقتصادية في الدولة العثمانية، وقيامه بهيكلتها بما يتَّفق والتقسيم الدولي للعمل الذي فرضته القوى الاستعمارية، ما بين دول أوروبية استعمارية منتجة، ودول العالم الثالث ومنها الدولة العثمانية المستهلكة (4). أيضاً، مع التحولات العميقة التي حدثت في بنية الدولة العثمانية بالنسبة للأقليات الدينية والعرقية، بسبب الإصلاحات التي جئنا عليها سابقاً “خطي كلخانة وهمايون وخط الطابو”، ثم دور المدارس التبشيرية في تشكيل نخبة من المثقفين الذين تأثروا بفلسفة التنوير وأفكار الثورة الفرنسية، بدأت تتشكل داخل الدولة العثمانية، قوى اجتماعية جديدة من العرب مسيحيين ومسلمين، راحوا يتطلَّعون للتحرر من السيطرة العثمانية، وخاصة بوصول السلطان “عبد الحميد الثاني” وتنصّله من كل الإصلاحات الدستورية التي أقرها “عبد الحميد الأول” مع الشباب العثماني الجديد، وتطلعاتهم القوميّة والدستوريّة، فقد سعى إلى تصفيتهم والتفرد بالسلطة وإلغاء الإصلاحات، واعتماد شعار “الرابطة الإسلامية” (5)، بغية محاصرة أولى إرهاصات الفكر القومي، لدى العثمانيين أنفسهم، ولدى المكونات الدينية والعرقية الأخرى ومنها العرب.
في هذا الوقت، ظهر مشروع قومي مواز، هو المشروع القومي العربي الذي راح يعبّر عن نفسه، بافتتاح جمعيات أدبية وسياسية تركِّز على الفكرة القومية العربية واللغة العربية، والرغبة في المشاركة السياسية، لكنَّ تفرد “عبد الحميد الثاني” بالسلطة وديكتاتوريته، حاصر هذا المشروع ومشاريع بقيّة المكونات القومية، ليجد بعض المثقفين العرب وخاصة من المسلمين، بأن طرح مشروع الرابطة الإسلامية، يشكّل منطلقاً جديداً لتحسين أوضاع العرب.
لا يمكن لأحد أن ينكر، ما للدين الإسلامي من أهمية حاسمة خلال تاريخ الدولة العثمانية الطويل، حيث كان الجميع يشعرون أنهم أعضاء في أمة واحدة، يربطهم دين واحد، وحاكم واحد، هو السلطان خليفة المسلمين، إضافة للغة العربية كونها لغة القرآن والتشريع أيضاً، ومن خلالها احتلت النخب العربية مكانة هامة في قضاء الدولة. وبناء عليه، لم تشهد المحافل السياسية في الدولة العثمانية حتى العقد الأول من النصف الثاني للقرن التاسع عشر، شيئاً يدعى “قضية عربية”، وكانت لفظة عرب تطلق على بدو الصحراء، وسكان الأرياف، وليس على العرب داخل مدن الدولة العثمانية. (6)
يقول “رشيد رضا” في مقالٍ نشرته “المنار” بعنوان “الجنسيات في المملكة العثمانية”: “لم يوجد دين من الأديان ألَّف بين شعوب وقبائل مختلفة، في جميع روابط الجنسية، وجعلها أمة واحدة، وجنساً واحداً، إلا الدين الإسلامي”. (7)
حتى مفهوم “القوميّة” الذي كانت تُوصف به الأقليات الدينية، ورغم أنه شكَّل أحد مقومات القوميّة في مفهومها العروبي في سورية ولبنان، فيما بعد، إلا أنه لم يكن يعني القوميّة في صيغتها الغربية العلمانية التي ظهرت في أوروبا، بقدر ما كان يعني أمة دينية، كالأمة المارونية، وأمة الروم الكاثوليك، وهذا ما جعل القنصل الفرنسي “بيتفيل” يقول في أحد رسائله: “في هذا البلد – سورية، حيث لفظة الدين تعتبر مرادفة للفظة القومية، أو كلمة وطن”. (8)
إذاً، عمل “عبد الحميد الثاني” بعد وصوله إلى السلطة، على إلغاء الدستور ومحاصرة كل الأقليات القوميّة، والتنكيل بها، وربطها بسياسة الدولة الأمنيّة الاستبداديّة، والتأكيد على شعار الرابطة الإسلاميّة، كبديل عن الشعارات القوميّة التي بدأت تتحرك هنا وهناك، من داخل الدولة العثمانيّة، ومنها القوميّة العربيّة. (9)
في هذه الفترة من حكمه، بدأت تتشكَّل في كلِّ مكان من الولايات العثمانية، الجمعيات السريّة والعلنيّة ذات الطابع السياسي، ومنها العربيّة، مثل “جمعيّة الشورى العثمانيّة” التي أسَّسها “رشيد رضا”، و “جمعيّة بيروت السريّة” و”حلقة طاهر الجزائري”، وغيرهم الكثير. (10)
ثم طرحت سياسة حزب الاتحاد والترقي الطورانيّة، التي اشتغلت على تذويب القوميات الأخرى داخل بنيّة الدولة العثمانيّة، وهو ما قال عنه “طلعة باشا” في أحد خطبه بـ “سالونيك”: “وعليه، لا يمكن أن تكون هناك مساواة بين الطرفين، ما لم نفلح أولاً في تتريك الامبراطورية، وذلك بعد القضاء قضاءً مبرماً على كل حركة ثوريّة، وكلّ دعاية سياسيّة ضدنا في الولايات البلقانيّة”. (11)
خلق هذا ردود فعل عكسيّة عند القوميات عموماً، ومنها العرب الذين لمسوا في هذه السياسة، قضاءً على وجودهم، وتذويباً لشخصيتهم.
بعد هذا العرض المكثف، نعود لنسأل أنفسنا: “ما هي أبرز مظاهر تمثُّل الفكر القومي العربي، عند العرب في الفترة إياها؟… إنه ما سنجيب عنه في دراساتٍ لاحقه.
 كاتب وباحث من سورية
d.owaid333d@gmail.com
الهوامش:
1- منير موسى. الفكر العربي في العصر الحديث. دار الحقيقة – بيروت.
2- 3 – زين نور الدين زين. نشوء القومية العربية – دار النهار – بيروت –
4- جفري براون. الحضارة الأوربية في القرن التاسع عشر. المكتبة الأهلية – بيروت. ترجمة عبلة حجاب – ص96.
5- لوتسكي. تاريخ الأقطار العربية. دار التقدم موسكو – ص379.
6- 7- 8 – زين نور الدين زين.. صفحة 43
9- محمد جميل بيهم. العروبة والشعوبية الحديثة، دار الكشاف – بيروت- 1957 – ص147
10- 11 مصطفى الشهابي. القومية العربية، معهد الدراسات العربية العالمية -1961- ص45.

التاريخ: الثلاثاء23-2-2021

رقم العدد :1034

 

آخر الأخبار
صيانة عدد من آبار المياه بالقنيطرة  تركيا تشارك في إخماد حرائق ريف اللاذقية بطائرات وآليات   حفريات خطرة في مداخل سوق هال طفس  عون ينفي عبور مجموعات مسلّحة من سوريا ويؤكد التنسيق مع دمشق  طلاب التاسع يخوضون امتحان اللغة الفرنسية دون تعقيد أو غموض  إدلب على خارطة السياحة مجدداً.. تاريخ عريق وطبيعة تأسر الأنظار سلل غذائية للأسر العائدة والأكثر حاجة في حلب  سوريا تفتح أبوابها للاستثمار.. انطلاقة اقتصادية جديدة بدفع عربي ودولي  قوات الأمن والدفاع المدني بوجٍه نيران الغابات في قسطل معاف  قضية دولية تلاحق المخلوع بشار الأسد.. النيابة الفرنسية تطالب بتثبيت مذكرة توقيفه  بعد حسم خيارها نحو تعزيز دوره ... هل سيشهد الإنتاج المحلي ثورة حقيقية ..؟  صرف الرواتب الصيفية شهرياً وزيادات مالية تشمل المعلمين في حلب  استجابة لما نشرته"الثورة "  كهرباء سلمية تزور الرهجان  نهج استباقي.. اتجاه كلي نحو  الإنتاج وابتعاد كلي عن الاقتراض الخارجي  الهوية البصرية الجديدة لسوريا .. رمز للانطلاق نحو مستقبل جديد؟ تفعيل مستشفى الأورام في حلب بالتعاون مع تركيا المؤتمر الطبي الدولي لـ"سامز" ينطلق في دمشق غصم تطلق حملة نظافة عامة مبادرة أهلية لحفر بئر لمياه الشرب في معرية بدرعا السيطرة  على حريق ضخم في شارع ابن الرشد بحماة