الملحق الثقافي:سامي سماحة *
أكَّدت الأحداث التي تمرُّ بها بلادنا، أننا في القرن الواحد والعشرين، ما زلنا نعيش حرب وجودٍ ليس في فلسطين فحسب، بل في كلِّ أنحاءِ سورية.. أيضاً، أكَّدت النتائج الأولية لهذه الأحداث، بأننا ما زلنا نفتقر إلى المناعة، ولم نخرج من ثوب التنوّع المولّد لمفاهيمِ التفرقة والاختلاف، على قواعد إثبات الوجود والإلغاء، ولم نخرج من ثوبِ التجزئة المُضعّف لخواصر المركز، والمركز هو دمشق.
لم تستهدفُ الحرب «الجمهورية العربية السورية»، كشأنٍ سياسي أو اجتماعي، بل استهدفتها كشأنٍ ثقافي، ذلك أنه الشأن الذي تقوم عليه السياسة التي هي فنُّ خدمة الأغراض القومية، ويقوم الاجتماع بكلِّ تفاصيله الاقتصادية والاجتماعية.
لقد شكّلت سورية منذ حرب تشرين عام 1973، سدَّاً منيعاً في وجه كلِّ الغزوات الثقافية، واستطاعت إنشاء حركة ثقافية، مستقلة كل الاستقلال عن الثقافات الغربية، ومتفاعلة معها على طريقة التجويد، وليس على طريقة النقل والتقليد.
حاول صانعو الحرب على سورية، استغلال الوجوه الثقافية العلمانية، وخاصة الماركسية، لغايةٍ تهدف إلى استنفار القوى العلمانية المعارضة في الداخل، وكان مؤشرهم ما أسموه ربيع دمشق، وغايتهم تحييد الأصدقاء، اعتماداً على علاقتهم مع هؤلاء العلمانيين.
هذا لا يعني أبداً، إلغاء الدور الأميركي – الأوروبي – العربي، الذي كان يقف خلف هؤلاء، وخلف أدوات الحرب .
لا شكَّ أن الدور الثقافي، الذي لعبته دمشق منذ الحركة التصحيحية، أقلق الأعداء، وأقلق المشاريع الغربية الأميركية، وموقف دمشق من المفاوضات التي أفضت إلى وادي عربة، وقيام السلطة الفلسطينية، أزعج الغرب وأميركا.
إن ما كان يقوله ويفعله القائد السوري، لا يمكن حصره بالعمل السياسي والحراك الدبلوماسي، بل كان في مسارِ النهوض الفكري والثقافي.
فحديثه عن أن فلسطين جنوب سورية، ومن ثم قوله أن الجولان وسط سورية، ليس كلاماً عادياً، ولا رسائل سياسية، بل هو كلامٌ فكريٌّ عقائدي، يقوم على ثقافةٍ تستمدُّ قوتها، من تاريخ بلادنا العائد إلى ما قبل التاريخ الجلي.
التاريخ الذي نقلت فيه الثقافة الصراع الثقافي، من صراعٍ لتحقيق المصالح، إلى صراعٍ وجودي، يؤكِّد أن معركتنا الأولية هي معركة ثقافة الوجود التي تنطلق من تراب الوطن، وتكون غايتها المحافظة على ترابه.
لأنهم أخفقوا في مواجهة دمشق بمشروعهم الثقافي التخريبي والظلامي، ولأنهم عجزوا عن خلقِ أدواتٍ فاعلة ومدمّرة، في قلب وفكر وثقافة سورية، أيضاً، لأنهم عجزوا عن استلابِ إرادة دمشق، ودفعها للقبول بالتسويات المذّلَّة، كان لا بدَّ من إعلان الحرب عليها، عبر تحريض المجتمع على محاربة بعضه، والسعي لإسقاط مفهوم الدولة الثقافي، وبالتالي سقوط الدولة سياسياً واجتماعياً.
أرادوها حرباً عالمية، لأنهم يعلمون جيداً أن سورية وقلبها دمشق، هما آخر مواقع صمودنا الثقافي، وهما أول نقاط انطلاقنا نحو صناعة ثقافة الحياة، وإطلاق حركة الصراع الفكري في الثقافة السورية، بعدما سجَّلت نقاط تقدم في لبنان والعراق وفلسطين.
حان لنا أن نقرأ الثقافة قبل أن نقرأ أي شيءٍ آخر، وحدها هذه القراءة تقودنا إلى صياغة المشاريع الحقيقية لإنقاذ بلادنا، الفراغ الثقافي الذي أحدثته التدخلات الأجنبية في بلادنا، وخاصة في لبنان، سمح للآخرين أن يملؤوهُ بما يريدون من اتجاهات ثقافية، يكون فعلها الأساسي في لبنان، وتكون حاضنة لكلِّ مشاريع التخريب الثقافي في البلاد السورية وخاصة في دمشق.
مساحات الفكر لا تقبل الفراغ، ولا تقبل الركود، فهي بطبيعتها حركة، ومفتوحة للاستقبال، لا تعاند إذا خلت من الركائز العنيدة. عندما يتم احتلالها تتعثَّر وتصعب عمليات تحريرها.
أرادوا بحربهم على سورية، أن يجعلوا فضاءات الثقافة وهمٌ وفراغ، ليملؤوها بعدها بغزوات احتلالهم وفوضاهم وأحقادهم، وأرادوا تشجيع أصحاب المصالح ورؤوس الأموال، على تمويل الفتنة وتعميم ثقافة الفساد.
هم أرادوا ذلك، وهم بذلك يعتدون على حقَّنا في الثقافة والحياة، أرادوا كلّ ذلك، لكن، نحن ماذا نريد؟.
حتماً نريد خلاصنا، وقبلها، نريد معرفة ماذا نريد من الثقافة، قبل أن نعرف ماذا نريد من السياسة.
السياسة فعل مرحلي محدود بالزمن والمكان، أما الثقافة فهي فعلٌ غير مقيَّد بالزمان أو المكان، هي فعلٌ يبدأ من بقعة ضوءٍ وينتشر دون حدود، نستلهمه من تاريخنا، ونكتبه خطوط ارتقاءٍ لحاضرنا، وقواعد انطلاق لمستقبلنا.
* كاتب لبناني
التاريخ: الثلاثاء23-2-2021
رقم العدد :1034