الملحق الثقافي:إلهام سلطان:
يعتبر الفنان الراحل “محمود جلال”، رائداً بحقّ للحركة الفنية في سورية، لأنه أول من أرسى قواعد تبنى عليها اللوحة، وتك=نقلاً عن مشهدٍ طبيعي، أو رسماً خيالياً يغلب عليه الطابع التسجيلي، فجاء هو ونظّم اللوحة، وأعطاها اللغة الكلاسيكية التي ترفع شخوصه من مرتبةِ الأشخاص العاديين، إلى مرتبة الأشخاص الخالدين، فكان بذلك قد منحهم ما لديه من نبلٍ وأفكار، جعلت حتى الشخص العادي، بطلاً يختاره للوحاته من الحياة العادية.
إن ما قام به في مجال التصوير الزيتي، يمثِّل ما قدمه في النحت، فتأسيسه المتين للأسس التي أبدع فيها منحوتاته، وتنظيمه لها على أساسٍ من التكوين الهرمي، والعلاقات الثابتة التي أعطتها المتانة والقوة، هم ما جعل أعماله النحتية، ولاسيما الأخيرة، تعتبر من أهم الأعمال التي اعتمدت على الحركة الجميلة، والفكرة النبيلة، والصياغة الملائمة، ليكون بذلك قد استحقَّ فعلاً، أن يكون الرائد الأول للحركة الفنية في سورية.
لقد برز الفنان “جلال” كأحد أهم الفنانين الذين أسهموا بما حملوه معهم من أفكار في تطوير الفن التشكيلي، وإعطائه رسوخاً ومتانة، فقد تطورت الحركة الفنية من الصيغة التسجيلية إلى الكلاسيكية، سواء من حيث الموضوعات أم المعالجة.
رسم عدة مواضيع، بعضها أكثر ميلاً للرومانتيكية، وبعضها الآخر أكثر واقعية من كل الموضوعات الأخرى، لكن أهم لوحاته كانت كلاسيكية ذات موضوع محلي، ولهذا نكتشف في تجاربه المهمة الصياغة المتماسكة والعناية بالتكوين والرؤية الشمولية للعمل، على ضوء التنظيم لعناصره، وتُعتبر لوحته “صانعة أطباق القش” نموذجاً مهماً يجسد تجربة خاصة في الموضوع الشعبي المحلي الذي يتحوّل إلى موضوعٍ نبيل.
تحوّل أيضاً مشهد العاملة العادية، إلى نموذجٍ يتجاوز الأشخاص العاديين، ولهذا لم تعد اللوحة محاولة تسجيل للحادثة بشكل دقيق، بل مسرحية كاملة، أو أحد مشاهدها المهمة، فعناصرها كلها قد خضعت لتكوينٍ هرمي كلاسيكي، ولقد نظم أوضاع كل العناصر وفق إيقاع موسيقي، ينقلنا من شكلٍ لآخر ضمن البناء المتماسك، واستعان بالإضاءة الخارجية ليسلطها على شخوصه، لإعطاء اللوحة القوة والتفرّد.
محمود جلال.. والإنسان
اختار “محمود جلال” موضوعاته، من الحياة اليومية، وسلط الضوء على الإنسان، أصالته وعطاءاته وغير ذلك مما أظهره بنّاءً مجهولاً، يقدم الكثير في سبيل تطور مجتمعه ورقيّه.
هكذا يخلق من كل موضوعاته ما يتجاوزها عبر جدليةٍ بين نقيضين، يضعهما ويجعلنا نتلمّس مشهداً مسرحياً فيها، عبر لحظة من توقف الزمن يؤكد عليها، ويساعده على هذا قدراته المعبرة باللون.
إنه ما ميّز أعماله، بالقدرة على الإيحاء، وهو ما جعل اللوحة تتطور على يديه، بطريقةٍ لم تكن معروفة قبله.
محمود جلال.. مصوراً زيتيَّاً
درس الفن في إيطاليا، أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد سافر إليها عام 1934 وعاد منها ١٩٣٩، فتأثّر بالتجارب الفنية السائدة في تلك الفترة، والتي تدعو إلى العودة إلى الكلاسيكية لتجديد الفن الإيطالي، وإلى الأصول الراسخة لهذا الفن الذي يقوم على التخطيط المتين للأشكال في إعطائها القوة والمتانة، وهو التصوير المحكم دون عواطف، بل عن طريق الموضوعات النبيلة التي ارتبطت بالحياة اليومية، لا بالأساطير كما كانت في الماضي.
ولقد عبّر عن هذا المفهوم، حين قال بعد عودته، إن الرسم هو رسم الموضوعات الجميلة التي تمجد الحق والخير والقيم الكلاسيكية، إضافة إلى قوله: إن الرسم قادر على إبراز الفكرة، أما التلوين فيزيد هذه الفكرة وضوحاً، ويمنحها جمالاً سطحياً، واللون ظلٌّ ونورٌ دون خطوط، شأنه في تصوير الزيتي شأن الصوت الجميل في الغناء، لا تظهر محاسنه إلا إذا تدرج على سلم الأنغام، ومهما كان من طغيان الألوان على الرسم، أو العكس، فإن ذلك يرجع إلى الموضوع المعالج.
أما القضايا القومية، فقد تناولها على مسطحات لوحاته، عندما رسم لوحة “لماذا”؟ التي تعتبر أول لوحة عربية رسمت عن القضية الفلسطينية بعد النكبة، وتعتبر من بواكير أعماله التي استلهمها من واقع اللجوء.
في هذه المرحلة التي تناول فيها موضوعات متنوعة، اهتدى إلى أسلوبه الخاص الذي لم يتحول عنه منذ ذلك التاريخ، بل زاده تبلوراً وعمقاً ورؤى، إذ خرجت في المعارض الرسمية الأولى في مطلع الخمسينات لوحات مثل: المعلم، المضافة، الطبق، صانعة السجاد، الراعي، انتظار، وكلها صور إنسان الأرض العربية، وأحاسيسه المتفجرة، تجسّدها صور إبداعية، تخرج بحرارة اللون وصدق العاطفة ودقة التكوين.
محمود جلال.. نحاتاً
عبَّرت تجاربه النحتية، عن الأهداف نفسها التي عبرت عنها لوحاته الزيتية، فقد جسدت المفاهيم الكلاسيكية والدراسة المتأنية، المعبرة عن المتانة التي كان يؤمن بها، وبذلك تركت علامة بارزة ضمن تجارب النحت المعاصر في القطر العربي السوري، عبر التطورات التي مرت بها وعكست طليعة مهمة، ضمن هذه التجارب وخصوصاً في أعماله الأخيرة.
نجد من خلال منحوتاته، رموز أمتَّه مثل تمثال “أبو العلاء المعري” الموجود في المجمع العلمي العربي، و”عمر المختار”، وتمثال “طريق المجد” الذي يتسم بالقوة والحيوية والإثارة، حيث نلاحظ تعبيرات قوية توحي بالتصميم على الانطلاق قدماً في طريق المجد.
ومن أعماله النصبية المهمة أيضاً، تمثال “شهداء أطفال عامودا” الذي خلد فيه حريق سينما “عامودا 1960، ومن الرموز التاريخية، نصب “عباس بن فرناس” و”خولة بنت الأزور” و”الأمومة” و”الاتحاد” و”الفدائي”.
أما قمّة إبداعه، ففي منحوتة “ابن رشد”، وهي من مقتنيات المتحف الوطني، وتُعتبر الشكل الأكثر كلاسيكية في تاريخ حركة النحت السوري، وقد درسه ليؤكد هذه المفاهيم، ويعطي من خلاله الأصالة النحتية، ويؤكد العطاء الكبير للفيلسوف العربي الشهير.
هذا كله، يكشف عن أهمية ما قدمه هذا الفنان في مجال النحت، يضاف ذلك إلى التصوير الزيتي، وأما ما قدمه في مجال التربية الفنية، والتربية والتعليم، فهو موضوع آخر يحتاج إلى دراسة أخرى.
التاريخ: الثلاثاء23-2-2021
رقم العدد :1034