المؤشرات الحاصلة على الساحة العالمية توحي بأن ثمة تغيرات محتملة ستطبع مسار العلاقات الدولية خلال المرحلة القادمة، وينتظر من هذه التغيرات أن تحمل انفراجاً قد تتلمسه شعوب الدول التي وقفت بوجه السياسات الغربية طوال العقود الماضية، وهذه التغيرات يفرضها واقع الصمود الذي تبديه القوى الحية الرافضة للاستسلام والرضوخ للمخططات الغربية، الأمر الذي يجبر قوى الهيمنة الغربية على التسليم بواقع هزيمة مشاريعها الاستعمارية ووصولها إلى طريق مسدود.
معركة “عض الأصابع” التي تخوضها الدول الكبرى على ساحة منطقتنا اليوم، باتت شبه محسومة لمصلحة أصحاب الأرض المتشبثين بوجودهم التاريخي، ولم يعد أمام الغرب المعتدي سوى خيار الانكفاء التدريجي، فهو فقد كل أوراقه الضاغطة، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، والحروب العبثية التي يشنها عبر أدواته الإرهابية باتت تستنزف قواه العسكرية واللوجستية والمادية، وهو عاكف على إعادة ترتيب استراتيجيته الهدامة لاستثمارها في مراحل لاحقة، للتعويض عن فشل سياسته في الحفاظ على مبدأ الهيمنة والاستفراد بالقرار الدولي.
دول محور المقاومة أثبتت وجودها كلاعب قوي ومؤثر، وساهمت بصمودها وصبرها الاستراتيجي بإفشال المشاريع الغربية، وتثبيت خرائط التوازنات الدولية، والتي على أساسها ترتسم ملامح النظام الدولي الجديد، فبعد عشر سنوات من الحرب الإرهابية، عجز الغرب عن إخضاع سورية، وسلب قرارها السيادي، هي تنهض مجدداً، وتحدد خياراتها الوطنية وفقاً لمشيئة أبنائها وإرادتهم، وبعد سلسلة طويلة من سياسة الضغوط القصوى، فشل هذا الغرب في ثني إيران عن التمسك بحقوقها، وكل المؤشرات تفيد اليوم أن مفاوضات فيينا ستحسم لمصلحة العودة إلى الاتفاق النووي وفق الشروط الإيرانية، والتي تجاوزت شرط رفع العقوبات بشكل كامل، إلى حد ضرورة الحصول على ضمانات قوية وملزمة بألا يعاود أي رئيس أميركي قادم تكرار حماقة ترامب، والضغط الأميركي تجاه الأدوات الغربية في المنطقة لفتح نوافذ حوار مع إيران لتخفيف حدة التوتر، هو من باب الحفاظ على مصالحه، وهذا يؤكد أن الغرب بات مستعجلاً أكثر من طهران لإعادة إحياء الاتفاق النووي، وهذا في حد ذاته اعتراف بدور إيران ومكانتها الإقليمية والدولية.
أميركا التي تسجل فشلها الاستراتيجي، الصريح والمعلن، في سورية والعراق وإيران وفلسطين المحتلة واليمن، وصولاً إلى كوبا وكوريا الديمقراطية وفنزويلا، وحتى في أفغانستان، تبرر ضمنياً انكفاءها التدريجي غير المعلن، بالتفرغ لمواجهة روسيا والصين باعتبارهما أكبر قوتين تهددان مكانتها العالمية، ولكنها باتت تدرك سلفاً أنها ستواجه الفشل ذاته، وهي خبرت ذلك من خلال الردود الروسية والصينية الحازمة والصارمة على سياسة التصعيد العسكري والاقتصادي تجاههما، فهما عززا تحالفهما وتعاونهما الثنائي، وكان لوقوفهما الصلب إلى جانب سورية وإيران دور كبير في مساعدة البلدين الحليفين على تحقيق انتصاراتهما المنجزة، وما بني على تلك الإنجازات من تحالفات استراتيجية ذات ثقل نوعي، يوازي التحالفات الأميركية في المنطقة والعالم، وما نلاحظه اليوم من تراجع واضح للهجة التهديد الأميركية تجاه موسكو وبكين، واستبدالها بنغمة الحوار والتعاون، من أجل تخفيف التوتر، وحل الأزمات الدولية الساخنة، فمرده إلى وصول الغرب إلى قناعة متأخرة بأن سياسة البلطجة وفرض الإملاءات لم يعد لها أي تأثير في ظل موازين القوى الجديدة التي باتت تفرض وجودها على الساحة العالمية.
نبض الحدث- بقلم أمين التحرير ناصر منذر