الملحق الثقافي:وجيه حسن:
هل بيننا مَنْ ينكر، أنّ الإعلام المعاصر بمختلفِ قنواته، ومفاصله، ومفرداته، كان ـ ولا يزال ـ له دورٌ كبيرٌ في تثقيف المجتمع، وتوعيته على الصُّعد كافة؟!..
وهل فينا مَنْ يتجاهل أيضاً، أنّ «الثقافة هي الهيكل الأساسي للحضارة»، في مختلف أشكالها وألوانها ومظاهرها؟. ثمّ أليست «الثقافة» هي منهجاً، وثروة، وطريقة حياة؟.. وهل بِنْيَة أيّ مجتمع من المجتمعات، في هذا البلد أو ذاك، تقوم على أرضيّةٍ اقتصاديّةٍ، أو اجتماعيّةٍ، بعيداً عن البيئة الفكريّة ـ الثقافيّة، التي لا يستغني عنها أيّ مجتمع، ليكون مجتمعاً سليماً مُعافَى؟..
وهاكم هذا السؤال السّاخن: هل بيننا مَنْ يغمض عينيه، أو يصمّ أذنيه، عن الحكمة القديمة التي لا تزال تحتفظ حتى الآن بقيمتها ومصداقيّتها ورَنينها. الحكمة القائلة: «ليسَ بالخبز وحدَه يحيا الإنسان»؟.
و»إذا كانت الحروب تبدأ بالأفكار، فكذلك الهزائم تبدأ هناك»، على حدّ قول د. «شاكر مصطفى»..
إنّ المثقف الحقيقيّ، في أيّ مجتمع وُجِد، يعرف من نقطة الوعي والفهم، أين مصادر ثقافته، في أيّ كتاب، في أيّ مرجع أو مصدر، في أيّة رواية، في أيّة دراسة تاريخيّة، في أيّ كتابٍ فكريّ أو علميّ أو فلسفيّ أو سياسيّ، فهذه هي بوّابات مضيئة من بوّابات الثقافة الحيّة المتنوّرة…
تأسيساً على ما وردَ، فإنّ الحياة الثقافيّة الحقيقيّة، ليس مصدرها المسلسلات التلفزيونيّة أساساً، ولا الجريدة اليوميّة، والبرنامج الإذاعيّ، والمجلة الرّخوة… مصادر الثقافة الصّحيحة، التي تضيءُ معالم الطريق، هي الكتب الجيّدة والعميقة في المقام الأوّل، وكذا الروايات الفذّة، والقصص الجميلة، والشّعر البديع، وأوّلاً وقبل كلّ شيءٍ، «بلاغة القرآن الكريم وثقافته وإعجازه»، وما أحسب أنّ أحداً ما ستكون ثقافته من الأجهزة الإعلاميّة وحدَها، تلك التي تسرق الوقت، وتحاول أنْ تغطي الدّقائق، وتسوّد الصفحات البِيض!..
إنّ المثقف الحقيقي، لا يلتفت إلى مثل هذه المجالات، التفاتته إلى مصادر الثقافة الحقّة! وفي اليقين، فإنّ الأعمّ الأغلب من المثقفين، لا يسمعون إذاعات، ولا يشاهدون التلفزيون بشكل إدمانيّ، كما يفعل أنصافُ المثقفين أو أرباعُهم، وإنّما يقرؤون الأخبار الرّاهنة، أو يسمعون النشرات اليوميّة، لمجرّد معرفة الأحداث السياسيّة، والأحداث القتاليّة، هنا وهناك وهنالك…
وللإنصاف، وكي يكون كلامنا قريباً من الواقع، فإنه لا حظّ لأيّة ثقافة من الثقافات، إذا لم تؤازرْها أجهزة الإعلام كافّة، ولم تعرّف بما اهتدت إليه من وجوه الخَلْق والإبداع، كما أنّه لا سبيل أمام أجهزة الإعلام للنّجاح والتفوّق، من دون زاد ثقافيّ حقيقيّ، يشدّ اهتمام الجمهور إليها، ويسمح لها بإبلاغ رسالتها في مختلف المحطات والميادين!.
لكنّ السؤال الأبرز، والأكثر سخونة: ماذا عن هذا الصّندوق الخطِر، الذي ندعوه (التلفزيون)؟. فالكثيرون يجلسون أمامه ساعاتٍ طويلة، في قلق وانفعال غريبين!.. سؤالٌ آخر: هل تذهب صوره وإيحاءاته وسلوكياته في الفضاء؟. خاصّة بالنسبة إلى الأطفال السذّج، أو بالنسبة إلى المراهقين من الجنسين؟. وللإنصاف، فإنّ البرامج في معظم القنوات العربيّة مملوءة بالغُثاء، الذي تسمّيه حواراً، ومسلسلاً، ومسرحيّة، ولقطات، وأغنية رخيصة لمطربٍ أرْخص.. وفي اليقين، هناك برامج لا تُغنِي ولا تُسمِن، ولا تقدّم للمستمع العربي سوى الخواء!..
اليوم، لقد أصبحت الوجهة الإعلاميّة (الجديدة جدّاً)، تعتمد على برنامج الدقائق الخَمْس، أو برنامج الدقيقة، أو برنامج النّسْمَة، أو اللمحَة الخاطفة! وتعتمد على الطرفة، أو الإفلاس الغنائيّ، فلقد أصبح واضحاً لكلّ صاحب بصر وبصيرة، بأننا في الأعمّ الأغلب، لم نعد نسمع بعد سيّدة الغناء العربي «أم كلثوم» مُغنية ذات طرب أصيل، وذات إثارة في عصبِ الرّوح! ولم نعد نسمع بعد عظمة «محمد عبد الوهاب» أغنية ذات حضور لافت، نجري وراءها، نتتبّع سماعها بإصغاءٍ ماتعٍ، إلّا في النادر.. وكي لا أجانب الصواب، أقول: هناك إفلاسٌ حقيقي، تعانيه غالبية المجتمعات، ولسوءِ الحظ، فإنّ إذاعاتنا العربية، باتت اليوم، تعتمد على الأغاني التي استُهلِكت، والتي تعدّدت أماكنها!!..
في عقودٍ خلَتْ، كان الإذاعيون يعتبرون أنّ الأغنية مادة ترفيهيّة، من أجل البرنامج السياسيّ، ومن أجل البرنامج الثقافيّ، أمّا الآن، فقد أصبحت الأغاني مادة أساسيّة، يقدّم المذيع/ المذيعة أربع أو خمس أو ستّ أغنيات، يسميها «منوّعات»، أو «مختارات»، أو سوى ذلك، ثم يقدّم برنامج «ما يطلبه المستمعون»، أو «ما يطلبه الجمهور»، أو «ما يطلبه المُتعطّشون»! وفي اليقين، فإنّ معظم هذه الأغاني، ليس فيها إبداعٌ حقيقيّ مُقنع، لأنّ الإفلاس في إبداع الأغنية غالب وعام، كالإفلاس في سائر النواحي الفنيّة، والسبب الحقيقي، أنّ الأغنية لم تَعُد اليوم مادة ترفيهيّة، وبالتالي فقد تعدّدت أماكنها، فهناك «الفيديو والاستديوهات، وهناك الفيديو كليب… إلخ».
من هنا يتهادَى القول: ينبغي أنْ تعتمد الإذاعات على برامج ثقافيّة غنيّة، عالية المستوى والجودة، ذات مواضيع مقنعة.. والخطر ليس في هذا كلّه، وإنّما هناك «خطورة عدم الفهم»، و»عدم الاستيعاب والتأثّر»: هنا بيت القصيد، هنا تكمن الطامّة الكبرى. وهناك مَنْ يقول، أو يتقوّل: بأنه لا تصلح للمجتمعات إلّا هذه «البرامج الهابطة»، وهذه «الأغاني المُتدنّية» الرّخيصة، ذات الإيقاع السريع، واللمحات الخاطفة، ويبرهنون على رأيهم هذا بحماسة واندفاع شديدين، بأننا نعيش جميعاً عصر السّرعة، عصر «البَتْزَنَة»، و»الهَمْبَرَة»، و»المَكْدَنَة»، و»الأنْترَة»، و «التّوتَرة»، و»الفكْسَنَة» و»المُوبَلة»، ثمّ يتقوّلون ـ وهم الواهمُون الفارغُون ـ إنّ الجمهور العريض من الناس، يقبل مثل هذا النوع من العلل والأمراض، منْ دون أنْ يفكروا مليّاً «بأنّ في المجتمع أناساً مثقفين أنقياء، أسوياء، عقلاء، وأنّ في جنباته مَنْ يقرأ الكتب الغنيّة الدّسمة، التي تفيده وتفيد وطنه بآنٍ معاً».. بل إننا بكلّ حَيَدَة، مع الرّأي الحصيف القائل: «إنّ هناك الكثيرين الذين يسمعون الإذاعة المرئيّة، والإذاعة المسموعة، ويدركون بحسّ وطنيّ صادق، أنّها سوف تفقد قيمتها، إذا لم يكنْ عندها أجهزةٌ أثقف منْ تلك التي في المجتمع»، على حدّ تعبير الشّاعر اليماني المرحوم «عبدالله البردّوني»…
تأسيساً على ما ذُكر، وللبيان والتّبيين، فإنّ صنع غدنا العربيّ المأمول، سيكون بناءً هشّاً من القشّ والعِيدان، إذا لم يقمْ على قاعدة «فكريّة ـ ثقافيّة» صلبة، من باب ضمان «الأمن الثقافيّ» للمجتمع، حتى لا يبقى ضحيّة «الغزو الثقافيّ – الفكريّ»، الذي يدْهمُه من كلّ حدبٍ وصوب، وحتى تتزوّد مؤسَّساتنا الإعلامية، وأجهزتنا التلفزيونية الوطنية، بالهواء الصحّي النقيّ، الذي يقيها شرَّ الاختناق، وخطر العواصف الهوجاء، والتيّارات الشّنعاء، تلك التي تهبّ على مجتمعاتنا العربية منْ كلِّ فجٍّ عميق، ومن كلّ اتجاه، كما هو حاصل اليوم في كثرةٍ كاثرة من مجتمعات العرب والمسلمين، في الكثير من أصقاع المعمورة، المُتراحِبة الأطراف..
التاريخ: الثلاثاء8-6-2021
رقم العدد :1049