الثورة أون لاين – رشا سلوم:
عاصي الرحباني, قيثارة النغم والشعر, وصانع الأمجاد الرحبانية مع إخوته والسيدة فيروز , تمر هذه الأيام ذكرى وفاته, وهو الباقي في العقول والقلوب نغماً شجياً, بهياً, كل صباح نحن على موعد معه, تسحرنا فيروز التي تنقله عبر النغم والكلمة, عاصي الذي رحل
في 21 حزيران 1986م
عاصي الرحباني كما تقول تيريز منصور: هو الإبداع في واحدة من أروع تجلياته، أما ملهمته فهي السيدة فيروز.
وفي ذكرى غياب عاصي لا يمكننا الحديث عن سيرة حياة هذا المبدع، من دون الحديث عن سيرة الأخوين رحباني عاصي ومنصور. منذ طفولتهما كانا أشبه بتوءمين، ولد عاصي سنة 1923 ومنصور سنة 1925، ينادونهما عاصي ومنصور وهكذا بقيا دائماً. في ظل والدهما حنا عاصي الرحباني صاحب شخصية غريبة وعجيبة نشأا وكبرا. كان والدهما من “القبضايات”، هرب من بيروت إلى أنطلياس بعد جولات إطلاق نار عديدة تبادلها مع الجنود العثمانيين.
تجارب وإبداع..
عام 1937 أصدر عاصي مجلة صغيرة أسماها “الحرشاية”. كان يكتب كل موادها بخط يده ويوقع كل مادة باسم مختلف مدعياً أن ثمة أسرة تحرير تسهم في العمل. وآخر كل أسبوع كان يحمل العدد الجديد ويقرؤه في بيوت الأصدقاء والأقارب.
صيف 1938، حقق عاصي في “المنيبع” (الضهور) حلماً عزيزاً كان يراوده: اقتناء آلة موسيقية، فالفتى الذي لم يتح له شراء آلة موسيقية من قبل، وهو بدا مولعاً بالموسيقا، وجد يوماً على أرض المقهى ورقة من فئة العشر ليرات. أمره والده بتعليقها على حبل في المقهى ليتسنى لصاحبها استعادتها. وبعد أيام بقيت في مكانها، فما كان منه إلا أن قلدّها على ورقة، وعلّق الورقة على الحبل. أما الليرات العشر فقد ذهب الى بيروت واشترى بها كماناً قديماً. في العام ذاته عادت العائلة الى أنطلياس واستقرت فيها من جديد. وهناك بدأت مسيرة عاصي ومنصور الفنية، في أنطلياس أقام الوالد مقهى “الفوار”. هناك كانت طفولة عاصي ومنصور، على حفافي نهر الفوار
وفي وعر الجبال كانت لهما حكايات، استعادتها أعمالهما الفنية فيما بعد. جدتهما غيتا كانت علامة فارقة في طفولتهما. معها حفظا الأشعار والأزجال وسمعا القصص الشعبية والأساطير التي أغنت مخيلتهما باكراً. والدهما أيضاً، كان مولعاً بالشعر يحفظ قصائد عنترة، ومولعاً بالموسيقا. وفي الليالي الطويلة كان الولدان يسترقان السمع من عليتهما إلى الوالد يعزف على البزق ألحاناً شجية. وفي العلية أيضاً كانت تصل إلى مسامعهما أغاني سيد درويش ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم من “فونوغراف” المقهى. بدا عاصي مبدعاً مبتكراً منذ طفولته، ويتذكر منصور أن عاصي كان يروي له أخباراً غريبة عن أناس لا يكبرون وعن عالم تسوده العدالة ويعيش فيه الناس بمحبة وطيبة. وهذه القيم جسدتها أعمالهما فيما بعد.
عام 1933 انتقل حنا عاصي الرحباني مع عائلته من أنطلياس إلى ضهور الشوير حيث استأجر “مقهى المنيبع”، هذه الفترة كان لها أثر كبير في حياة عاصي ومنصور، هناك عاشا الطبيعة واختلطا بالقرويين وحفظا القصص الشعبية والأشعار من جدتهما غيتا. ومن الأعمال التي أنجزاها في تلك الفترة، إخراج مسرحيات لأحد أصدقاء العائلة يوسف أبو جودة، وكانا يحلمان بمسرح يزاوج بين الكلمة والأغنية، الحلم الذي تحقق فيما بعد في المسرح الغنائي الذي أطلقاه والذي كان فريداً من نوعه.
عام 1942 توظف عاصي في بلدية أنطلياس كبوليس بلدية، وبعد عام تبعه منصور الذي انتقل بعدها إلى شرطة بيروت، وكان رئيس البلدية من محبي الموسيقا، الأمر الذي أدى الى تنظيم حفلات موسيقية شارك فيها الثلاثة.
اللقاء بالملهمة..
في العام 1950، بدأ التعاون مع السيدة فيروز أثناء دخولها الإذاعة اللبنانية مع الطلائع. ولقد أعلمه الموسيقار الراحل حليم الرومي برغبة فيروز (كانت في الخامسة عشرة) بدخول الكورس. وكان عاصي في حينها ملحناً ناشئاً، فخوراً بنفسه وبعد أن تعرّف إلى فيروز لحّن لها الأغنية الأولى وكانت بعنوان “غروب”، وكلماتها للشاعر العظيم قبلان مكرزل، ثم كانت أغنية “عتاب” و”يابا لالا”…
صيف 1954 تزوّج عاصي وفيروز، وأنجبا زياد وهلي وليال وريما. وكانت مسيرة فنية جمعت ثلاثة عمالقة. ومع عاصي ومنصور وفيروز وصل الفن اللبناني إلى القمم جمالاً ورقياً، وكانت له في ذاكرة الناس ووجدانهم آثار يصعب قياسها.
والشام الهوى..
وإذا كانت تيريز لا تقف عند ما قدمته سورية للرحابنة, فثمة من يقدم شيئاً من الحقيقة ففي مقال نشرته البيان الثقافية والفنية, آذار 2009م جاء القول بعد تكريم الشام للرحابنة:
(استذكر إلياس ذكرياته مع أخويه عاصي ومنصور في دمشق، فقال: كان عمري عشر سنوات عندما كنت أجيء إلى سورية مع عاصي ومنصور، كانت الأيام تنعم بالصفاء والهدوء وفرح اللبنانيين والسوريين وشعاع الحياة يملأ وجوه الناس، تجمعهم سماء واحدة وقمر واحد، ليالي سهر واحدة، صوت فيروز وموسيقا الرحابنة، لم يكن هناك سوى اللحظات السعيدة.
واستطرد إلياس بحديث ذكرياته عن أبوة عاصي ومنصور له: كنت في الخامسة عندما توفي أبي، فأصبح لي أبوان عاصي ومنصور، أحسست يومها أنني مميز، وعندما بدأ الأخوان رحباني زياراتهما إلى دمشق غالباً ما كنت معهما، وفيها انتابني الشعور ذاته، بأنني مميز بأن لي قمرين وسماءين، فكان الاشتياق كبيراً وفرح اللقاء مشعاً، كنت أعبر السنين وذكريات الأرض السورية تكبر، وتتقطر في ذاكرتي وقلبي مثل الأرض اللبنانية، إنها ظاهرة بينكم وبيننا من الصعب أن تكون هناك ولادة تشبهها.
وذكر إلياس بوقوف السوريين قيادة وشعباً إلى جانبه، عندما غاب عاصي ومنصور، متمنياً إكمال طريق المحبة بينكم وبيننا، وأن نقدم لكم فرحاً وموسيقا تليق بمحبتكم.)