عانت المرأة تاريخياً من تعامل لا يتناسب معها بوصفها صنو الرجل في الخلق والإنسانية وهذا مرتبط بنظرة دونية لدورها وارتباطه بالعمل المنزلي والزراعي والخدمي ومفرخة للولادة والإنجاب والمتعة، وتكرست هذه الصورة النمطية في وعي شعوب كثيرة مع سيادة فكرة الذكورية وتفوقها وهيمنتها على المرأة، وينبئنا تاريخ المرأة ودورها أنه لم يكن متشابها في كل المجتمعات وهذا يرتبط بثقافة المجتمع وثقافة العمل والنظرة إلى المرأة بوصفها شريكاً للرجل في البعد الإنساني والدور الوظيفي لذلك نجد أن مجتمعات دون غيرها أفردت للمرأة مكانة ليست كغيرها من النساء في بلدان أخرى فقد مارست المرأة معظم الأدوار في عملية البناء الإنساني حيث تعتبر مفتاحاً للتطور في النظرة للتاريخ وقراءته ولاسيما في منطقتنا العربية وتحديداً بلاد الشام والعراق وهناك العديد من النماذج لسيدات سوريات لعبن دوراً حضارياً في الممالك والإمبراطوريات وهو ما نجده في أسطورة الملكة أوروبا ابنة اجينور ملك صور وكذلك جوليا دومنا الإمبراطورة الحمصية السورية وهي المثال البارع على ذلك فهي بالإضافة إلى كونها حكمت أو شاركت في الحكم في عهدي زوجها وابنها كركلا إلا أن ما يعنينا في شخصها أنها شكلت مجلساً ضخماً من كبار العلماء والأدباء والفلاسفة والشعراء والأطباء والقانونيين المعاصرين لها وكان أشبه ما يكون بالصالون الأدبي والعلمي الذي يعقد بشكل منتظم تحت إشرافها.
وعلى خطا جوليا دومنا سارت الإمبراطورة السورية تيودورا وهي من مواليد مدينة منبج سنة 500 م حيث كان لها دور أساسي في اعتماد أول مجموعة للقوانين الرومانية تحت اسم زوجها الإمبراطور جوستنيان وإلى جانب جوليا دومنا وتيودورا برزت الملكة زنوبيا مع ما تعرضت له من ظلم بوصفها وصية على العرش حيث حكمت تدمر وتحدت روما واستعانت بالحكماء والفلاسفة لتنهض بمجتمعها وتبرز اليسار ابنة صور وحاكمة وبانية قرطاجة عنوانا بارزا في تاريخ نساء سورية الزاخر.
إن هذا الخيط والخط المتصل من التاريخ المغرق في القدم لازال مستمرا في العصر الحديث من خلال أسماء تعج بها الذاكرة الجمعية وتزين صفحات المجد حيث جوليا طعمة التي أصدرت مجلة المرأة عام 1913 ومي زيادة وماري العجمي ونازك العابد وورده بارجي ونازك الملائكة وغادة السمان وكوليت خوري، ويبقى السؤال إذا كان التاريخ يشهد أن المرأة السورية هي بقعة ضوء أو نافذة نور فمن ذا الذي ارتكب الجريمة بحق صورتها في المجتمع والإجابة نحيلها للتاريخ.
مما سبق نصل إلى قناعة بأن المرأة السورية كانت عبر تاريخ طويل صاحبة دور محوري في تاريخ شعوب المنطقة بل ونموذجاً في العمل والإبداع والتضحية والإنجاز فلا يمكن أن نجد مجتمعاً متطوراً وامرأةً متخلفةً أو مجتمعاً متخلفاً وامرأةً متطورة، ولا يمكن لمجتمع أن يكون متطورا بشكل فعلي دون مشاركة حقيقية للمرأة في ذلك التطور وكذلك مساهمة كافة قطاعاته وفئاته فرأس المال البشري يشكل الثروة التي لا تعرف النضوب لا بل أنها تزداد بالاستعمال والتوظيف الصحيح لها، ولعل من أحد أهم تراجع أو تأخر عملية التنمية في بلداننا العربية هو عدم إشراك المرأة بشكل فعال في العملية الاقتصادية والتنموية وتعطيل دورها في هذا المجال ما يعني خسارة لنصف طاقات المجتمع على الأقل وهدرها وتحولها إلى حالة سلبية أو معطلة في عملية الإنتاج مع الأخذ في الاعتبار دور المرأة الأسري وأهميته ومحوريته في هذا المجال.
إن تعطيل دور المرأة في عملية الإنتاج أو إضعافه يرتبط بعدة عوامل يأتي في مقدمتها الثقافة الاجتماعية السائدة ونمط التفكير الذي يحكم قطاعات واسعة من المجتمعات والنظرة التقليدية لدور المرأة ووظيفتها، ناهيك عن ضعف العملية الإنتاجية في بعض المجتمعات ما يؤدي إلى عطالة وبطالة تصيب أغلب أفراد المجتمع رجالا ونساء، وهذه إشكالية أخرى تحتاج إلى تحليل واسع وعميق لأسبابها وتداعياتها وآثارها الكارثية على المجتمع بكليته، ولعل حديثنا هنا ينصب على ضرورة التركيز على السعي لتشكيل ثقافة اجتماعية تساهم في رفع الحيف عن المرأة في تلك البلدان وانخراطها في النشاط الاقتصادي والاجتماعي بشكل عام دونما قيود اجتماعية أو قانونية تحول دون ذلك وهذا باعتقادي يحتاج إلى عمل ثقافي وقانوني منظم ومركز وحملة توعية شاملة تساهم فيها القوى السياسية والاجتماعية والمجتمع المدني والأهلي وكافة المنابر الثقافية والإعلامية يعززها حراك نسائي منظم وممنهج وخطاب يتوجه بالدرجة الأولى للرجال والمؤسسات المعنية برسم السياسات الثقافية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية بحيث يكون الخطاب متناسقاً ومتناغماً وموحداً وغير متناقض ما يؤدي إلى سلوك قلق في هذا المجال وهذا ما نلاحظه في بعض المجتمعات حيث نلمس عدم التطابق بين الخطاب السياسي أو الرسمي وبين الممارسة العملية ما يعني حدوث قوة شد عكسي في مقاربة الحالة على صعيد الواقع.
لقد حققت المرأة السورية تقدماً واضحاً بل حالة متقدمة ورائدة على المستويين العربي والإقليمي في هذا المجال، فهي نالت حقوقها التمثيلية والقانونية منذ فترة بعيدة فكان لها حق التصويت في الانتخابات والترشح للمجالس المنتخبة منذ أربعينيات القرن الماضي، في الوقت الذي كانت فيه المرأة الأوربية لا تتمتع بهذا الحق وتطور ذلك الدور وتنامى بعد قيام ثورة البعث في الثامن من آذار عام 1963 حيث كانت الشريك الأساسي في العملية الإنتاجية والتربوية والثقافية والسياسية، وكذلك في إطار العملية الديمقراطية وبنيتها وخلاصاتها فقد تضمن دستور حزب البعث في مادته 12 نصاً خاصاً بالمرأة يدعو للنهوض بمستوى وعيها وحقوقها المتساوية مع الرجل إضافة إلى وجودها الفاعل في الأحزاب والقوى السياسية والمنظمات والنقابات والقوات المسلحة ولاسيما بعد قيام الحركة التصحيحية التي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي تبوأت المرأة في عهده أهم المواقع السياسية والسلطوية، ناهيك عن حضورها على المستوى العلمي والأكاديمي، وفي القوات المسلحة والسلك القضائي إضافة إلى أنها رادت قطاع الأعمال والتجارة والنشاط الاقتصادي الخاص والتعاوني والمشترك وحققت نجاحات واضحة في هذا المجال ما جعل المرأة السورية تتفاخر بأنها شريكة الرجل حقيقة لا ادعاء، ولعل ما قدمته المرأة السورية أثناء الحرب العدوانية الإرهابية على سورية من تضحيات فاقت كل تصور حيث كانت أم الشهيد بل الشهداء وزوجته وشقيقته وقبل ذلك هي المقاتلة في الصفوف الأولى إلى جانب الرجل في كل ساحات المواجهة بل والمغذي المعنوي والتحشيدي للمقاتلين دفاعاً عن سورية وشعبها وتاريخها ورسالتها الحضارية التي هي رسالة إنسانية بكل معاني الإنسانية.
إن حديثنا عما حققته المرأة من مكاسب لا يعني عدم وجود عقبات اجتماعية وغير اجتماعية تحول دون تحقيق كامل طموحاتها واندماجها الكامل في الفعل الوطني بمستوياته كافة، فلا زالت هنالك العديد من القيود القانونية والاجتماعية تحد من طموح المرأة السورية وهذا يحتاج إلى نشاط وفعالية ثقافية واجتماعية تتعزز بالمزيد من الإجراءات القانونية التي تكرسها واقعاً مجسداً على أرض الواقع ولعل الدستور السوري في مادته الـ 45 يفسح المجال للمرأة للعمل على قدم المساواة مع الرجل في مجالات الحياة حيث وجدت السوريات فيه أغلب ما سعين وناضلن لتحقيقه ليضاف إلى إنجازات المرأة السورية صاحبة الجذر الحضاري الضارب عمقاً في التاريخ ولعل ما جاء في خطاب التطوير والتحديث للسيد الرئيس بشار الأسد في خطاب القسم 17 -7-2000 يشكل نقلة نوعية في تعزيز دور المرأة السورية التي وصفها بأنها نصف المجتمع وصانعة نصفه الآخر مفسحاً في المجال لتعزيز دورها في قيادة المؤسسات بكافة مستوياتها واطلاق دورها في نشاطات وفعاليات المجتمع المدني ليكون رديفاً لدور الدولة في عملية التنمية الشاملة، فتم إشهار وتأسيس مئات الجمعيات الأهلية التي لعبت دوراً هاماً أثناء الحرب العدوانية على سورية ولاسيما دعم أسر الشهداء والجرحى والمساهمة في دعم المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر التي ساهمت في تأمين سبل عيش كريم لآلاف الأسر ما ساعد في التخفيف من آثار الإرهاب الاقتصادي الذي يمارس على الشعب العربي السوري.
وخلاصة القول: يشهد تاريخ المرأة السورية أنها كانت في مقدمة نساء العالم في الحصول على حقوقها وممارستها وأنها كانت ولازالت عنصراً فاعلاً في الحياة وشريكاً حقيقياً وليس شكلياً في كل النشاطات الإنسانية والأدوار العملية التي ساهمت في عملية النهوض والبناء الشامل الذي شهده المجتمع السوري عبر التاريخ ما جعل منها نموذجاً في العمل والوفاء والإنجاز.
إضاءات- د : خلف المفتاح