ثمة خلط يتم عند الحديث عن المفكر والفيلسوف، فهل هما شيء واحد؟ لا شك أن الاجابة عن هذا السؤال ليست بتلك السهولة التي يعتقدها البعض، في حين أن ثمة فوارق بينهما، فالفيلسوف هو ذلك الذي يبحث في الكليات ويطرح أسئلة كبيرة ويجيب عليها تحت عنوان لماذا؟ وعلى أساسها ينتج المفاهيم ويشكل وعياً جديداً حولها، فالفلسفة هي عملية إنتاج مفاهيم وتشكيل وعي جديد حولها، والفيلسوف كلي التفكير.
أما المفكر فهو من يطرح أسئلة محددة ويجيب عنها، فكل فيلسوف هو مفكر ولكن ليس كل مفكر هو فيلسوف، فالمفكرالذي يلتزم بإيديولوجية معينة ليس مفكراً ولا فيلسوفاً، لأنه قيد أفكاره وفلسفته بإيديولوجية معينة ما يعني أنه لم يكن حراً في قراءته أو طريقة تعامله مع القضية التي يقاربها أو يتطرق لها تحليلاً وتركيباً، فهو بهذا المعنى مقيد التفكير والبحث والاستقصاء. ولعل بداية الفلسفة كانت الحديثة تكمن في عصر النهضة الأوروبية بالانطلاق من مركزية الإنسان في الكون والوجود وليس غيره، عبر ثنائية الإنسان والطبيعة، فأصبحنا أمام إنسان تتمحور حوله الأشياء، ومع التخلص من الكهنوت الكنسي الذي خيَّم على الفكر الأوروبي لعشرة قرون كان بزوغ عصر النهضة الذي حدث فيه ما تمت الإشارة إليه، أي مركزي الإنسان وعلاقته بالطبيعة هي تدشين لتلك المرحلة وتلا ذلك عصر الأنوار، حيث أصبح الإنسان حراً في التفكير ومن دون أي قيود أو حدود في رحلة البحث عن الحقيقة ولم تعد ما يمكن تسميته خطوطاً حمراء، فهو تجاوز للاهوت وكل ما هو مقيد لحرية التفكير في اكتشاف الحقيقة دون التقيد بالمرجعيات السابقة وعصر الأنوار هنا هو الذي مهد لما يمكن تسميته الفلسفة الطليقة.
الفردية هي أساس مركزية الإنسان والتحرر من مفهوم وثقافة القطيع أي الإنسان أصبح يتمتع بالاستقلال الذاتي، وهنا كانت مقولة وفلسفة ديكارت أنا أفكر أنا موجود، وليس أنا أكرر أو أردد أنا موجود؟ فالأنا مهم في قضية حرية التفكير، لذلك ولأننا نفكر ونعيش حالة القطيع نتهرب من كلمة أنا فنقول في ثقافتنا الشعبية،علماً أن الفلسفة التنويرية الديكارتية تنطلق من مقولة أنا أفكر أقول أنا أقرر، إنها تحرر الذات من سطوة المجتمع الرقيب، لذلك تلحظ أنه في حوارات الغرب دائماً يقولون بداية أنا أعتقد؟ لذلك نرى في النحن أول مظهر من مظاهر الاستبداد الاجتماعيز
لقد شكل علم الكلام بداية اللاهوت الإسلامي، علماً أنه شكل حلقة وسيطة ما بين الفلسفة الإغريقية والفلسفة الإسلامية عبر تقديس وتقعيد اللغة وإعطائها سمة الثبات لجهة الحفاظ عليها من لغات ولهجات وافدة كانت نتيجة طبيعية لانتشار الدين الإسلامي خارج الفضاء العربي، ولعل الفلاسفة التراثيين الذين يفكرون بشكل ميكانيكي ينطلقون من تقييد الذات بالنص الثابت هم من لم يستطع أن يجيب على أسئلة الحاضر إجابات قاطعة مانعة، وهنا تصبح العودة للتراث برؤية وروح جديدة قضية مهمة تتمثل في امتلاك أجنحة نقله للحاضر من خلال فكرة جديدة يستنبطها ذلك التراث الثر، وذلك عبر تأويلها، حيث لا يمكن نقلها كما هي، لأنها ابنته ومحكومة بتاريخيتها، فمحاولة استلافها كما كانت شأنه شأن من يريد أن يحيي العظام وهي رميم.
من هنا تصبح الخطوة الصحيحة متمثلة بقراءة واعية وعقلانية وموضوعية للتراث جنباً إلى جنب مع الكتابات الفلسفية وما يستتبعه ذلك من إرهاصات أولى لبداية تغيير متدرج في طرائق التفكير وهي حالة تراكمية وسيرورة وسياق، ولعل ذلك النهج سيجد لاءات كثيرة بحكم الثقافة السائدة، ولكن من يسعى لذلك سواء كانوا كتاباً أو فلاسفة سيكتشفون بعد معاناة أن الكثيرين قد أصبحوا معهم وهم الذين وجدوا معاناة كبيرة في محاولاتهم تلك، فلابد من تحويل الوعي الرأسي إلى وعي أفقي، أي ثقافة مجتمعية وليس نخبوية، فلا يمكن الانطلاق بمفاهيم قديمة في عالم جديد وهذا يعني حتماً الصدام مع ثقافة ووعي مترسخ عبر مئات السنين ساندته سطوة النص وسطوة المجتمع وربما السلطة المتحالفة معهما.
لقد كان لسلطة اللاهوت تاريخياً قوة تتجاوز السلطة السياسية، لأن الأولى لها مفاهيمها وفلسفتها، بينما السلطة لها مروجيها أو دعاتها الذين قد لا يتمتعون باحترام أو تأثير في المجتمع لجهة خطابهم الملوث بإيديولوجيا معينة وعلى العكس من ذلك نجد مكانة ودور الفيلسوف الذي غالباً ما كان متحرراً من أي إيديولوجيا، سواء كانت دينية أو سياسية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن السلطة الدينية لا تكون قامعة إلا إذا كانت متحالفة مع سلطة سياسية أو لا هوت مسلح، الأمر الذي يجعل السلطة السياسية تخشاه، ولعل ذلك ما يفسر تحالفه معه، لا لقناعتها به وإنما لاحتوائه حفاظاً على بقائها واستمرارها.
إضاءات- د. خلف المفتاح