الملحق الثقافي:عيسى اسكندر علي:
بين الشنفرى والمهلهل وامرؤ القيس، بضع عشراتٍ من السنين فقط، وبغضِّ النظر عن ظروفِ وجود كلّ شخصيةٍ على حدة، فإن ما يجمعهم هو خلود إرثهم الشعريّ، واستمراريته ما استمرت اللغة العربية في الوجود.. لكن، وبنظرةٍ مقارنة إلى ثلاث عينات من شعرهم:
يقول “امرؤ القيس”:
“فلمّا أجَزنا ساحَةَ الحيِّ وانتحَى
بنا بطنُ خبتٍ ذي حِقافٍ عَقنقلِ
هصرتُ بفودي رأسِها فتمايلتْ
عليَّ هضيم الكشحِ ريَّا المخَلخَلِ”
يقول “الشنفرى”:
“ولسْتُ بِعَلِّ شرُّهُ دُونَ خَيرِهِ
ألفَّ إذا ما رُعتهُ اهتاجَ أعْزلُ
ولسْتُ بمحْيارِ الظَّلامِ إذا انتَحتْ
هُدى الهَوجلِ العِسّيفِ يَهماءُ هوجَلُ”
“يقول المهلهل”:
“يا خليليَّ نادِيَا لي كُليباً
وَاعلما أنه ملاقٍ كفاحا
يا خليليَّ نادِيَا لي كُليباً
وَاعْلَمَا أَنَّهُ هَائِماً مُلْتَاحَا”
ربما لاحظتم أن تسلسل أبيات الشعر “العيّنات”، جاء من الأكثر جزالة، إلى الجزلِ، إلى الرقيق الليّن، وهو شعر المهلهل.. (سُمي بالمهلهل، لأنه رقّق الشّعر أي هلهله، كما سماه أخاه كليب بزيرِ النساء، أي جليس النساء”.
ثلاثةٌ من فحولِ الشعر في القرن السادس الميلادي، ونلاحظ الاختلاف الواضح في الكلمات المستخدمة، في بناءِ الجملة الشعريّة، حيث نكاد نحتاج معجماً لنفهم ما يقول “امرؤ القيس”، بينما نحتاج المعجمَ بنسبةٍ أقل، مع “الشنفرى”، لكن نلاحظ خروجه عن قوانين الشعر في عصره، فهو يصف طريقة عيشه وفلسفة حياته كصعلوك، بينما كان المحور الأساسيّ لكلِّ قصيدة، الوقوف على الأطلال، ثم الوصف والفخر، أو الغزل أو المديح أو الرثاء .
“الشنفرى” متمرّد حتى في شعره، من حيث الموضوع، لكنه ملتزم بالشكلِ العام للقصيدة، من حيث القافية والوزن .
وبالانتقال إلى “المهلهل”، نجد أنه أحدث ثورةً هادئة في الكلمة السهلة الواضحة، البعيدة كلّ البعد عن الجزالة والتعقيد، بينما كان ملتزماً بقانون الشّعر في عصره، من حيث الموضوع والشكل .
سأكتفي بهؤلاء الفحول من الشعراء، لأدخل إلى الموضوع الذي أريد، فالتجديد والتغيير ليس حدثاً مستجدّاً على الساحة الشعريّة أو الأدبيّة، بل هو حالةٌ صحيّة وطبيعيّة. لكن، وبعد عصورِ الانحطاط الطويلة، التي مرّت على الثقافة في الجزيرة العربية، ودول المشرق، بسبب غزو المماليك وغيرهم، وصولاً إلى الاحتلال العثماني المظلم للمنطقة، بات المزاج العام رافضاً ومستنكراً لأي تطوّر أو تجديد في الأدب أو الشعر، حيث بقي الشعر بالتعريف هو (كلام موزون مقفّى)، إلى أن رمى كلّ من “بدر شاكر السياب” و”نازك الملائكة” حجراً في الماء الراكد (هناك من سبقهم في مصر لكنهما الأكثر شهرة من غيرهم)، ثم جاءت مجلة “شعر” في خمسينيات القرن الماضي، لتكتشف عمالقة شعر الحداثة، وكان أبرزهم “أدونيس” و”الماغوط”، ومن بعدهم كرّت السبّحة (لامجال لذكر أسماء شعراء الحداثة والشعر العمودي، فهم كثر، وإن كان أبرزهم “نزار قباني” و “درويش” و”أمل دنقل” و”فايز خضور” وغيرهم من الشعراء الكبار، فالمهمّ أن الشّعر تغيّر، ولم يعد بمقدورِ أيِّ ناقدٍ، أن يضع قوالب أو قوانين للشّعر.
بالانتقال إلى الرواية والقصة، نجد أنها جديدة كلياً على الأدب العربي، فبعض النقاد يدّعون أن “محمد حسين هيكل” هو أوّل من كتب رواية باللغة العربية “زينب” عام ١٩١٣م، ثمّ تطورت الرواية عربياً وعالمياً، ولم يعد هناك ضوابط حاكمة للرواية، حتى أضحت بعض الروايات أشبه بالخواطر أو المذكرات الشخصيّة، ثمّ انبثق فن القصة، ثم القصة القصيرة، ثم الأقصوصة، وبعدها القصة القصيرة جداً، أو الومضة .
بعد هذا العرض الموجز لتطور الأدب العربيّ، نستطيع القول: إن حركة الأدب، من شعرٍ ورواية وقصة بمختلف أشكالها، قد تطوّرت وتجدّدت، بغضِّ النظر عن رأي النقاد ومحاولاتهم، وضع ضوابطٍ تحكم كلّ صنفٍ من هذه الأصناف..
إن ما يحكم تطور وتجدّد الأدب فعلياً، هو تطوّر الحياة وليس رأي النقاد على أهميته البالغة، لكنَّ الكلمة النهائية في هذا الأمر للمتلقّي، فهو من يقول هذا العمل جميل أو غير جميل، وهو من يفرض نفسه، كأهم ناقد على الإطلاق .
الخلاصة: إن التجديد والتحديث، يتطلب بالضرورة كسر القواعد والقوالب الجامدة، لذلك نستطيع القول: إنه ليس للعمل الأدبيّ، قوانين أو قواعد ثابتة تحكمه، لكن له قرّاء يحكمون إن كانت الـ “ قصيدة أو الرواية أو القصة.. إلخ”، جيدة أو رديئة.
التاريخ: الثلاثاء20-7-2021
رقم العدد :1055