ثمة تحولات ملموسة يشهدها العالم اليوم في طبيعة العلاقات الدولية، وتغيير موازين القوى، وإنشاء تحالفات جديدة تثير الانقسامات بين الشركاء التقليديين أنفسهم، وكل ذلك فرضه بروز قوى صاعدة أثبتت حضورها وتأثيرها القوي والفاعل على الساحة الدولية ( روسيا- الصين – إيران- محور المقاومة في المنطقة)، وهذا يبشر بقرب تثبيت دعائم نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، تنتهي معه سياسات الهيمنة الأميركية والغربية.
اصطدام السياسة الأميركية بجدار توازنات القوة الجديدة وضعها على مفترق طرق من الخيارات الضيقة، وكلها تقود إلى مسلمة واحدة: “بدء انتهاء عصرها الأحادي”، حيث سياسة التصعيد، والتفرد باتخاذ القرارات المتسرعة لم تسعف إدارة بايدن باحتواء المتغيرات الدولية الحاصلة، وإنما أحدثت شرخاً كبيراً بينها وبين حلفائها الأوروبيين، فما حدث بأفغانستان زاد من فجوة الثقة بين أميركا وأوروبا، وبسبب عدائها المستحكم للصين وجهت إلى جانب بريطانيا ” طعنة في الظهر” لفرنسا من خلال تحالف ” أوكوس” الثلاثي الذي وضع مصير “الناتو” على المحك، بعد اعتزام فرنسا الانسحاب من قيادته العسكرية رداً على القرصنة الأميركية والبريطانية لصفقة الغواصات مع أستراليا.
رفض أميركا فكرة التعايش مع الحضور الصيني والروسي على الساحة الدولية، هو ما دفعها لاتخاذ خيارها الفاشل بإغلاق أبواب الحوار والتفاهم مع الدولتين الصاعدتين على قاعدة الندية والاحترام المتبادل، وإستراتيجية المواجهة التي تبنتها، هي التي تجرها اليوم نحو مستنقع آخر من التخبط والارتباك، فلولا أزمة الرهاب التي تعانيها من النفوذ الصيني المتصاعد، لما أنشأت تحالفها الثلاثي الجديد على حساب حلفائها الأوروبيين، حيث الأزمة المتصاعدة بين فرنسا وأميركا وبريطانيا، لا شك سيكون لها تأثير واضح على مسار العلاقات الدولية، فالدول الثلاث أعضاء في مجلس الأمن، ينسقون مواقفهم الدولية معا إزاء الملفات المطروحة، ولكن الوضع ربما يكون مختلفاً بعد أزمة الغواصات، فحدة الغضب الفرنسي قد توحي إلى إمكانية أن تخفف باريس من درجة التنسيق مع واشنطن ولندن، وتلجأ إلى دول أخرى أعضاء في مجلس الأمن، فضلاً عن أن هذه الأزمة عززت المخاوف والشكوك الأوروبية تجاه التزام الولايات المتحدة بمصالح حلفائها، وأعطت دفعاً إضافياً لفكرة إنشاء قوة أوروبية موحدة بعيداًً عن الهيمنة الأميركية.
بايدن زعم – من على منبر الأمم المتحدة- أن إدارته “ستفتح حقبة جديدة من الدبلوماسية”، وإذا كانت إدارته جادة بالفعل بهذا التوجه، فهذا جنوح قسري فرضته توازنات القوة الجديدة، فإضافة لقوة الحضور الصيني والروسي وتأثيره على مجرى الأحداث الدولية، تؤكد تطورات الأحداث أن محور المقاومة بات أيضاً مستعصياً على كل المخططات الأميركية في المنطقة، بعدما اصطدمت إدارة بايدن بواقع عجزها عن إخضاع دول هذا المحور، وباتت تتحسب لخروج قواتها المحتلة من المنطقة، وكل ذلك بات يحتم عليها البحث عن مخارج لائقة تحفظ ما تبقى من هيبتها، وهذا يقتضي بالضرورة التخلي عن سياساتها الهدامة، والانصياع لقواعد القانون الدولي لإعادة تصحيح مسار العلاقات الدولية، بما يحافظ على الأمن والسلم الدوليين، فهل تفعلها واشنطن؟.
نبض الحدث بقلم أمين التحرير ناصر منذر