الثورة أون لاين – أديب مخزوم:
معرض الفنانة التشكيلية سوسن حج إبراهيم في صالة الرواق العربي، التابعة لاتحاد الفنانين التشكيليين السوريين، يشكل امتداداً لأعمالها السابقة التي عرضتها داخل سورية وخارجها، وفيه تصل إلى جوهر التعبير عن الأحاسيس والانفعالات الداخلية، حيث تجنح هذه المرة نحو المزيد من الحرية في تجسيد روح الشكل الإنساني والوجوه والطبيعة والزهور والطيور وغيرها، وبالتالي فهي تتجاوز الصياغة الواقعية، وتقدم مواضيعها المختلفة بمزيد من الجرأة والحرية في معالجة الخطوط والألوان.
وهي في ذلك تؤكد علاقتها الوطيدة بالثقافة البصرية الحديثة، التي جعلتها ومنذ سنوات تشق طريقها نحو ملامح تحوير الوجوه وغيرها والمبالغة في تحريفها، إلى درجة التماهي والتداخل مع خلفيات لوحاتها التجريدية.
ولقد جاءت هذه المبالغة التعبيرية في لوحاتها بشكل عفوي بعد سلسلة تجاربها المتواصلة دون توقف أو انقطاع، لدرجة أنها تحمل معها ألوانها وأقلامها، إينما ذهبت وجلست، وترسم دراسات وتخطيطات للوحات قادمة، وهذا يؤكد عشقها المزمن والأبدي للفن التشكيلي، وأيضا للموسيقا الراقية والخالدة.
هكذا تسعى نحو مظاهر التغييب الكامل لملامح الوجوه وغيرها، كما تسعى وقبل أي شيء آخر لكسر مرتكزات الشكل المألوف في اللوحة التقليدية، فهي عن قصد لا تهتم بالتشريح الجمالي للجسد الأنثوي ولا بأبعاد المنظور، وتبرز اللوحة في أحيان كثيرة كهاجس انفعالي يمنح تجربتها المزيد من المغامرة والجرأة والمخاطرة، ولاسيما حين تنشر اللون بتلقائية زائدة. كأنها تريد أن تقول لنا أن الفنان لا يمكن أن يتملص من ذاته، لأن الفن هو جزء أساسي من حياته، ولهذا لا يمكن وضع حدود بين التجريد التعبيري، الذي تمارسه، والإيمان بضرورة وجود إشارات من الواقع في اللوحة.
وهذه الطروحات بإطارها التعبيري المغاير لما تراه العين في الأبعاد الثلاثة، تبرز قدرة العمل الفني على تحويل المساحة اللونية، إلى فسحة للحوار والتأمل، والوصول إلى علاقة حقيقية مع ثقافة فنون القرن الماضي والحالي، حيث تستعرض تلك العلاقة الحميمية بين حضور إشارات الشكل وغيابه، وبين اللون والوهج والسكون والحركة، ضمن هاجس إبراز التضاد بين الظلمة والنور، بينما تظهر لمساتها اللونية العفوية، وكأنها مشروع للتعبير عن موسيقا اللون في ديمومته الإيقاعية والغنائية.
هكذا أصبحت بحكم دراستها وتخرجها من معهد صلحي الوادي، قادرة على توءمة الموسيقا بالفن التشكيلي، من خلال صياغة فصول تكاوين عناصرها البصرية أو ما يسمى بالإحساس التلقائي في صياغة حركات اللون العفوي المتتابع دون توقف، كونها تجيد العزف على الكمان، وترسم على صوت الموسيقا، حيث تتوالد من إيقاعاتها المسموعة، مؤشرات الإحساس بالموسيقا البصرية المقروءة في حركات اللون والخطوط، فهي تتعامل هنا بحرية مع أشكالها وألوانها وخطوطها، كما يمكن أن يفعل المؤلف الموسيقي بالألحان الموسيقية، وعلى سبيل المثال تبرز الإيقاعات الموسيقية السريعة في لوحتها عبر الحركات اللونية الانفعالية السريعة، وعلى العكس من ذلك تظهر الإيقاعات الموسيقية الهادئة في لوحاتها من خلال اللمسات اللونية الهادئة والبعيدة عن الانفعال والتوتر والقلق الداخلي.
ولايمكن في هذا المجال وصف أو تحديد تموجات الحركة اللونية لأنها مرتبطة باحتمالات لا متناهية على مستوى توليد الإيقاعات الموسيقية البصرية، وتحددها فروقات مرهفة شديدة الحساسية تساهم فيها تضاريس المادة اللونية وتنوع الدرجات وتوضع الطبقات الكثيفة والشفافة وغير ذلك من المؤثرات البصرية اللامتناهية، فلكل حركة أو لمسة لونية لها موقعها في محاورة الإيقاع الموسيقي المرافق، وبالتالي فالإيقاعات اللونية تبرز كصدى لإيقاعات الحركة اللحنية، التي ترافق إيقاعات حركة الرسم أو حركة اللون والخط في خطوات تقريب فن الرسم، من تنويعات النغم الموسيقي عن طريق العين.
وتتقاطع الخطوط العفوية في بعض لوحاتها ( ومن ضمنها لوحة البوستر) بطريقة هندسية، بحيث نجد بينها مايشبه المثلثات والمستطيلات، وهذا يقرب اللوحة أيضا من ثقافة فنون العصر، حيث تتنقل بين الهندسة اللونية التشكيلية، وبين الغنائية التعبيرية، كل ذلك ضمن نسيج لوني موحد يعبر عن صدق تعاملها مع خطوطها وألوانها.
ورغم إغراق لوحاتها بمظاهر التحوير والتحريف والتلخيص، يستطيع المشاهد أن يرى في بعض لوحاتها وجهاً إنسانياً أو مشهداً لموضوع مختصر، بأقل إشاراته لدرجة محو كل العناصر غير المفيدة، وهذا ما يمنح عملها صفة المختصر المفيد، حيث يغيب الشكل الواقعي تماماً، وتبقى إشاراته التي تدل عليه بحركات وضربات ولمسات لونية جريئة، تبحث عن صياغة تعبيرية مختصرة.
ونجد بعض لوحاتها مرتبطة بقلق حياتنا المعاصرة من خلال ملامح الوجوه البائسة وتعابير العيون والأجواء الخافتة، وهكذا تصبح بعض لوحاتها وكأنها مشروع للتعبير عن تشنجات القلق والتوتر والاضطراب في عالم اليوم اللاإنساني.
وتكتسب لوحاتها أهميتها من خلال تقنية تركيب الطبقات اللونية، وإبراز سماكتها وسطوحها الناتئة في بعض الأحيان، لإثبات الحضور الفني، والبحث التقني الصرف، الذي تعمل قبل أي شيء آخر على إبراز جماليته وتأثيراته البصرية في خطوات تنقلها بين الرسم على القماش والرسم على الورق بألوان الأكريليك، باحثة عن إيقاعية التشكيل التأليفي والتلويني، الأكثر تمثيلاً لشخصيتها وعوالمها الذاتية