إيقاعُ الرّوح.. «في حضرةِ العاصي»

الملحق الثقافي:د. أيمن أبو الشعر:

إنه «في حضرة العاصي» يستعيدُ ظلالَ روحه، كغمامةٍ تقطر رهاماً خفيفاً متواصلاً، وكانسيابِ نهرِ العاصي نفسه…
يتميّز شعر الدكتور «راتب سكر» عموماً، بنبرةٍ تشبه آهة حزنٍ دفين، متوارٍ خلف ابتهالاتِ الرّوح، لقادمٍ طال انتظاره، أو لحالةِ وجدٍ تبقى هادئة كنظرةِ حكيمٍ عليمٍ مجرّب، حتى وإن حلّت بروق هذا القادم مقتحمة، فهو يدري أن الغيم وراءها لن يمطر.
الشاعر «راتب سكر» حبورٌ بهيج في حياته وعلاقاته الاجتماعية الإنسانية، إنه يبعث الدفء والفرحة والابتسامة على وجوهِ سمّاره، فما سرّ هذه الآهة التي لا تخفى على المتابعِ، مهما توارت خلف استعاراته وصوره المميزة؟!. وكأنه «عصي الدمع»، جسورٌ بصبره على الزمن الصعب، والسؤال الأهم: كيف تتبدّى هذه الآهة كإيقاعٍ للرّوح، في عملهِ الجديد «في حضرة العاصي»؟.
يمكن أن نلاحظ بوضوح، عملية اندماجٍ وانسكابٍ مميزين للموسيقا الشّعريّة، وكأنهما لبوسٌ إيقاعيّ للصورة، مع استخدامٍ نوعيّ لضميرِ الغائب، يكاد يكون سمة خاصة جداً لـ «راتب سكر» ما يرهص لفتحِ بوابة الحزن الألِق بشكلٍ غير مباشر، وكأنّما ضمير الغائب يؤسّس لهذا الغياب والبعاد، لحالاتٍ وأشخاصٍ ومشاعر، هي جوهر المرتجى لديه، أو للشّعور المعذِّب الملازم، وهي آهة تنأى بقدرِ ما يقترب منها الشاعر، أو تقترب بقدرِ ما يبتعد عنها، فتلازمه إن حاول أن يهرب منها، وتتجلّى في صياغةٍ تبوح بسطوعٍ، بأن صائغها هو «راتب سكر» حتماً:
الريحُ تجلدني
بصوت من تعرِّيها
فأصرخُ دافعاً ضرباتها
والليلُ يعوي
في رداءٍ من مخاوفه
ويملأ كأسَ طاولتي بعتمتهِ..
وحين يوظّف الشاعر قصة يوسف، ينطلق في عنوانها من افتراضٍ مثير، معاكس لمسارِ القصّة المقدّسة، فيتحول يوسف الذي نجا من الجبّ وحملته قافلة عابرة إلى مصر، إلى «يوسف الذي أكله الذئب»، ويعيد الشاعر صياغتها بنشيجٍ روحيّ مدهش، فهو يتقمّص يوسف لكنه يعلن أن الذي رماه في غياهب الجبّ، ليس إخوته بل دهره، لأن يده جمرة من حنين، وفي ذلك تورية خفيّة ذكيّة، تشير إلى أن دهره كان معانداً له وحاقداً عليه، كما كان إخوة يوسف يكرهونه، فيما «راتب» يحبّهم وينتظرهم، وحين تصول الذئاب وتحوم حوله، يقدّم صورة مدهشة مكثّفة، فينتبه القارئ إلى أن الشاعر حاول أن يلهي الذئاب عنه بطعامه الذي تركه لها، وأنها حين بدأت تقصده وتحوم حوله، كانت في الحقيقة لا تريد نهش لحمه، بل لتقضي على «ما تبقى من الوجد في صوت روحه» والمعنى المعاكس يتضمن الجوهر ذاته، أي إنها إن نهشت لحمه، فهي تقصد وجده في صوتِ روحه، فيصل عبر نشيدٍ جميل بحزنه الشفيف، إلى أن يتمازج مع الطبيعة التي يأمل أن تغدو بلسما أو خلاصاً:
ولما تيقّنتُ
أن الذّئابَ انتهت
من طعامي
وحامتْ…
على ما تبقّى
من الوجدِ في صوتِ روحي
فتحت البراري
على أضلعي
يا رياح احمليني
لأنثى تناءت
تحثُّ الخطا
في غضونِ الجبينِ..
وفي القصيدة التي تحمل المجموعة عنوانها «في حضرة العاصي»، يتألّق الشاعر وقد وصل إلى حضنٍ حميميّ أثير لديه، وكعادته في استخدام الرمز الموحي الشفيف، يقدّم لنا قصّة وجده ووجدانه، عبر هذا العاصي الذي يشكّل شريان مدينته ووجدانه وحنانه ومعاناته بآنٍ معاً، فيبدو أنه في حضرة العاصي، يتأقلم معها ومع نسيج الذكريات التي تستنهض تاريخاً من دفتر الذكريات منذ الطفولة:
نقرَ الصباحُ
نوافذَ النّهرِ الجميلة
بالتلاميذِ الصغار
تراكضوا في الصّبح
والدنيا
منارٌ من شذا
والليلُ منكسرٌ على أقدامهم
يحنو النشيدُ على حقائبهم
يلوّنها بطعمِ كلامه
يستيقظُ الآباءُ
من نومٍ يكبّلهُ الزمان
على ممالكِ خوفهم
يتهامسونَ ملوّحينَ
لطلَّةِ الطّيرِ المغرّدِ بابتسام..
إنه هنا ليس مجرّد راوٍ عابر، إنه راوٍ مشارك ومعايش، بل يمكن القول إنه يكشف روحه ويتجلّى كسجلٍ لهذه الحضرة التي يستعيد ظلالها كغيمةٍ تقطر رهاماً خفيفاً متواصلاً، وكانسياب نهر العاصي نفسه، ونراه هنا كما لو في اللاشعور، يعاود أسلوبه المميز باستخدام ضمير الغائب، حتى للمشاعر والأحداث والأشياء القريبة واللصيقة به، ومن جديد – وكأنما تقوده مشاعره أكثر مما يقودها- يتمازج بقوةٍ مع الطبيعة، لا مستنطقاً بل كاشف بعفويةٍ، عن حوارٍ رائع يتمُّ بين الغمام وضلوعه التي أشعلها غرامٌ موغل في الحزن، فيلوب مفتّشاً عن ضمادٍ لجراحه، فيأتيه الغمام رمز العطاء والحنان الموغل في الرقَّة بكنهه الهلامي، فنكتشف أن هناك صداقة حميمة، بين ضلوعه والغمام الذي يطالب ضلوع الشاعر باستنهاض الذاكرة:
قال الضّمادُ لأضلعي:
هل تذكرين تشرّدي؟
وحنا يلاطفها
ويقرأ في دفاترها
قصيدة طينها..
كيف يمكن للضمادِ أن يقرأ قصيدة طينها؟!!. ببساطة لأن ضلوعه هي أرض العاصي ومحيطه وتربته، وبالتالي من البديهي أن يكون في دفاترها قصيدة الطين الخصيب، إنه التمازج الحقيقي مع مدينته ونهرها الخالد، ويقفل الشاعر هذه الرحلة الشاعرية الجميلة، بأن يترك للغمام ولضلوعه أن ينبشا كلّ الأسرار، ويحلّقان معاً في فضاءٍ يطير به، ويسمع وشوشاتهما «بغفلة عن رغبته»، فإذا بحجارته ذهب وصوته رخام، والذهب والرخام هنا يحملان جوهر النقاء والندرة والجمال، وليس بمعنى القسوة، بل بمعنى الانطلاق والبناء، فالغمام والضلوع راحا يعمِّران القصور، كما أن للحجر في ذاكرة الشاعر ملامح من أنسٍ وجهدٍ مقدّسين، يستشفها الشاعر من عروق يديّ والده الذي كان ينحت الحجر، ولهذا يصل إلى الختام الباهي كعصير الروح:
حجارتي ذهبٌ
وصوتي من رخامْ
قلبي على دارٍ
بُنيت سياجها من أدمعي
وعليكِ يا دار السّلام..
هذه مجرّد انطباعات سريعة، عن عملٍ يستحق الغوص في ثناياه واستنطاق ما وراء سطوره، فأجمل قراءة للشاعر، هي أن تقرأ عمق وجدانه الذي يخفي نشيجه عادة، تحسّباً من أنياب بقايا الذئاب التي ستبقى تحوم حوله، أو إباءً وعطفاً ومداراةً للمحبّين الذين يشاركونه لواعجه، ليوحي لهم بأنه بخير، وليحافظ على ابتسامتهم كي يبقى، طعم الحلاوة في ذائقتهم الجمالية، وهو طبع «السكر» دائماً..!.

التاريخ: الثلاثاء19-10-2021

رقم العدد :1068

 

آخر الأخبار
قادمة من ميناء طرابلس..الباخرة "3 TuwIQ" تؤم  ميناء بانياس "الزراعة الذكية"  للتكيّف مع التغيرات المناخية والحفاظ على الثروات   "التربية والتعليم": مواءمة التعليم المهني مع متطلبات سوق العمل إجراءات خدمية لتحسين واقع الحياة في معرّة النعمان من قاعة التدريب إلى سوق العمل.. التكنولوجيا تصنع مستقبل الشباب البندورة حصدت الحصّة الأكبر من خسائر التنين في بانياس  دعم التعليم النوعي وتعزيز ثقافة الاهتمام بالطفولة سقطة "باشان" عرّت الهجري ونواياه.. عبد الله غسان: "المكون الدرزي" مكون وطني الأمم المتحدة تحذِّر من الترحيل القسري للاجئين السوريين الجمعة القادم.. انطلاق "تكسبو لاند" للتكنولوجيا والابتكار وزير العدل من بيروت: نحرز تقدماً في التوصل لاتفاقية التعاون القضائي مع لبنان "الطوارئ" تكثف جهودها لإزالة مخلفات الحرب والألغام أردوغان: اندماج "قسد" بأقرب وقت سيُسرّع خطوات التنمية في سوريا "قصة نجاح".. هكذا أصبح العالم ينظر إلى سوريا علي التيناوي: الألغام قيد يعرقل عودة الحياة الطبيعية للسوريين مدير حماية المستهلك: تدوين السعر مرتبط بالتحول نحو مراقبة السوق الرابطة السورية لحقوق اللاجئين: مخلفات الحرب تعيق التعافي "تربية حلب" تواصل إجراءاتها الإدارية لاستكمال دمج معلمي الشمال محافظ إدلب يلتقي "قطر الخيرية" و"صندوق قطر للتنمية" في الدوحة "تجارة دمشق": قرار الاقتصاد لا يفرض التسعير على المنتجين