سمعنا كثيراً، وتحدثنا أكثر عمن أصبحوا يُعرفون باسم المؤثرين على شبكة المعلومات، وهم فعلاً يؤدون أدوارهم في التأثير على الناس بطريقة، أو بأخرى من خلال ما ينشرونه على صفحات حساباتهم بمختلف المواقع الإلكترونية التي تستقطب إليها أعداداً متزايدة من الناس لا يستهان بها بحال من الأحوال إذ تصل الأصفار إلى جانب أرقامها إلى ما يتجاوز الأصفار الستة.
وهؤلاء الناس من المؤثرين أصبحوا يشكلون ظاهرة تستدعي الوقوف عليها، ودراستها من قبل علماء اجتماع، وخبراء في علم النفس، ومختصين، لسبر مدى التأثيرات التي يحدثونها لدى متابعيهم، وكيف أنهم يتسللون إلى عقولهم ليغيّروا من بعض أفكارهم، أو قناعاتهم حتى تجرفهم الموجة كما موجة البحر التي تسحب إليها بهدوء نحو لجة عميقة كل مَنْ يقاومها، ويحاول أن يسبح في عكس اتجاهها.
وماذا بعد؟.. بل إنها الأذواق التي باتت تتغير تبعاً لتغيّر المفاهيم، وتطورها مع زمنها الذي تعيش فيه، وكم من العادات، والتقاليد أيضاً تخلى عنها الناس في القرن الحادي والعشرين لأنها لم تعد تتلاءم معه لتحل محلها أخرى قد لا تكون بالضرورة أفضل من سابقتها.
فالثقافة مثلاً ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالكتب وما يطرح منها بين أيدي القراء.. وارتياد المكتبات، والعامة منها أو الوطنية بشكل خاص يخلق مناخاً يساعد على الارتباط بالكتاب كوسيلة للمعرفة، والاطلاع، وسعة الأفق، واكتساب التجربة.. إلا أن مفهوم الثقافة لدى الأجيال الصغيرة قد تغيّر بحكم الارتباط الوثيق بالأجهزة الذكية، والذي بات أشبه ما يكون بالارتباط الوالدي، إذ أصبحت الثقافة تقاس بكم المعلومات التي يمتلكها أحدهم من خلال ما يحصّله على شبكة (الإنترنيت)، والتي غالباً ما هي سطحية، غير ملتفت إلى أمهات المعارف التي تنطوي عليها صفحات الكتب، ولو توفرت تلك الكتب عبر الشبكة، وفي الوقت نفسه تقبع منسية على رفوف المكتبات لا تمتد إليها سوى أيدي الدارسين، والباحثين دون العامة من الناس وهم لم يعودوا يفرّقون بين المتعلم، والمثقف بعد أن أصبحنا نكتفي بالتعليم دون الثقافة كواحد من المفاهيم البديلة الخاطئة، والسائدة.
ولما كانت الأذواق تتبدل وتتغيّر حسب مقاييس عصرها فهي لا تنحصر في الملبس، والمأكل فقط بل إنها في الفن على تنوع قنواته من رسم، وموسيقا، ورقص، وغناء، ومسرح، وسينما، وغيرها، وفي الأدب أيضاً على تنوع أجناسه الأدبية، إلا أن الأذواق عموماً تتشكل نتيجة ثقافة ما مرتبطة بها، إذ أنها لا تنبت من فراغ.. فما هي هذه الثقافة التي أفرزت مَنْ أصبحوا يصنعون الأذواق العامة على اختلافها بين الجودة والرداءة، بين قلة ذوق، أو حسنه، لتسود بالتالي ثقافة هجينة لا هي من إفراز ما مضى، ولا هي مستنبتة من واقع معاصر، وإلا لماذا كثيراً ما نعود بالذاكرة إلى أزمان مضت لنصفها بأنها كانت من الزمن الجميل حيث ساد فيها الذوق الرفيع فهل هذا مؤشر على رداءة الحاضر؟.
وإذا كانت الثقافة تفعل فعلها في تشكيل الذائقة، وتهذيبها.. أفلا يحق لنا أن نتساءل هنا عن ثقافة صانعي الأذواق هؤلاء، وعن ثقافتهم التي يسربونها إلى أجيال سريعة التأثر تقلّد دون أن تتساءل: هل من ذائقة رفيعة لم يتعرفوا إليها، وتحجبها تلك السائدة وراء ظهرها، وهي تضع معاييرها الجديدة للمجتمعات التي تصهرها العولمة في بوتقة واحدة؟.
وإذا ما اختلت منظومة القيم، وتبدلت معايير الجودة، وساد الابتذال، فرغت الساحة من فرسانها، وانحدرت الثقافة، وانحدرت معها الذائقة العامة من السيىء إلى الأسوأ.. وعلى رأي صاحب مؤلف (قصة الحضارة) المفكر (ويل ديورانت): “لا يمكن احتلال حضارة عظيمة من قبل قوة خارجية إذا لم تدمر نفسها من الداخل”.. فانتبهوا يا مَنْ تصنعون الأذواق.
(إضاءات) ـ لينـــــــا كيــــــــــلاني ـ