تتعرض الدولة الوطنية في المنطقة العربية لاستهداف ممنهج لبنيتها وحاملها الوطني القائم على حالة القبول الشعبي والانسجام مع مفهوم الوطن ،ويستهدف العقد الاجتماعي بل والهوية الجامعة والانتماء بمفهومه الواسع ،من هنا تأتي أهمية الإضاءة على مفهوم العقد الاجتماعي الذي يفسر ويشرعن فكرة الوطن والدولة ،وهو ما قدّم له الفلاسفة الانكليز والفرنسيين سواء جان جاك روسو أو مونتسكيو وبودان وقبلهم جون لوك .
ولعلّ فكرة أو نظرية العقد الاجتماعي تقوم وتتأسس على قناعة أفراد المجتمع بضرورة الاتفاق على الخروج من المجتمع الطبيعي ،أي مجتمع ما قبل الدولة إلى المجتمع السياسي المنظم وقد ظهرت نظرية العقد الاجتماعي في القرنين السابع عشر والثامن عشر أي أنها فلسفة سياسية حديثة ،كانت قد سبقتها حالة من الصراع على السلطة بين الكنيسة والقوى العلمانية في المجتمعات الأوروبية ،ولاسيما فرنسا وبريطانيا وألمانيا وتعتقد أن أصل الدولة يعود لتعاقد غير مكتوب بين الناس ارتضوا بموجبه وقبلوا بوجود قوانين تحدّ من حريتهم مقابل ضمان استقرار واستمرار حياتهم والحفاظ على ممتلكاتهم وأمنهم على قاعدة من العدالة الاجتماعية .
وتنطلق نظرية العقد الاجتماعي من أن المجتمع ونشوءه ليس بحالة طبيعية بل عملية منظمة ومتسقة وشاقة لأنها سبقت بالفوضى والخوف والخنوع وعدم الاستقرار، فلا قوانين تنظم علاقات الناس ولا سلطة تردع الفوضى والهيمنة والاستحواذ وانتهاك الحقوق والحريات الفردية ،ما دفع الناس للاتفاق على عقد اجتماعي بينهم ينقذ حياتهم ويخضعهم لقوانين عامة ،وينظم شؤونهم ومصالحهم شريطة أن يتخلوا على جزء منها لصالح السلطة الدولة ، وتقوم فكرة ونظرية العقد الاجتماعي على أسس عدة من أبرزها أن ظهور الأفراد يسبق ظهور الدولة ،وهم في الأساس متساوون وعلى علاقة تنافسية فيما بينهم ولكن تجمعهم عناصر وضرورات أساسية وهي الحاجة للأمان وحفظ مصالحهم وممتلكاتهم وحرياتهم ،ولا تتحقق تلك الأماني والضرورات والرغبات إلا بالانتقال من الحالة الطبيعية إلى حالة الدولة ،وهم بذلك يفضلون هذه على تلك بالتأكيد لأن ترك الأمور من دون قوة سلطة يفسح في المجال للتغول والتسلط والهيمنة للأقوياء على الضعفاء، فالإنسان وفق الفيلسوف البريطاني توماس هوبز أناني وشرير بطبعه ما يدخل المجتمعات ،بما أسماه بحرب الكل ضد الكل لجهة الحفاظ على الذات ويوقع بالناس العديد من الضحايا والخسائر البشرية، ما يستدعي الحاجة إلى الأمن ووجود عقد اجتماعي هدفه ضمان ذلك ،وإنهاء الحالة الطبيعية ولو على حساب الحقوق الطبيعية لصالح الدولة التي يحقّ لها في سبيل تحقيق حالة الأمن والأمان استخدام ما يلزم لضبط المجتمع بما في ذلك القوة والردع، شريطة أن لا تمارس الاستبداد بالأفراد وفق الانكليزي جون لوك الذي يخالف توماس هوبز في نظرته بأن الإنسان أناني وشرير بطبعه، فيراه خيِراً وطيباً ومسالماً ولا يحقّ للسلطة الاستبداد بالأفراد بل معاقبتهم وردع من يحاول الإخلال بالأمن حتى لو استخدمت القوة الرادعة والعنف بأقصى صوره . وبالمقابل لا يحقّ للسلطة الاستبداد بالأفراد وإلا فسيتمردون ضد الدولة ويستبدلون الحاكم بحاكم آخر يلبي طموحاتهم، لكونه أساء استخدام السلطة من دون مبرر شرعي يستدعي استخدام القوة الرادعة غير المفرطة ،كأن يحدث تمرد مسلح فيستخدم السلاح كوسيلة احتجاج أو الاعتداء على مؤسسات الدولة وقواتها المسلحة أو قوى الأمن الداخلي .
إن وجود الدولة كان حاجة وضرورة أثارت فضول المفكرين والساسة، ودفعتهم للبحث أن أسبابها لذلك ابتدع هوبز ولوك ومونتيسكيو وبودان ولاوسو وغيرهم نظرية العقد الاجتماعي، لتبرير ظهور الدولة ولكن هذه النظرية أدّت في سياق تطورها إلى تكريس مفاهيم أساسية كالحقوق والواجبات وسيادة القانون وفكرة المواطنة والعدالة والسيادة وتداول السلطة وحريات التعبير والمعتقد والاحتجاج وغيرها من مفاهيم الليبرالية والدولة الحديثة.
إضاءات – د. خلف المفتاح