الثورة – فؤاد الوادي:
عندما يتجاوز الحدث حدود المكان والزمان واللحظة، يصبح الحديث عنه أمراً في غاية الصعوبة والإدراك، ويصبح إيصال الفكرة أمراً صعب المنال، لكن مع مرور الوقت والزمن، وعندما تصبح آثار ونتائج واستشرافات ذلك الحدث واقعاً ملموساً وحقيقة متجسدة ومتجذرة في كل تفاصيل الذاكرة والإنسان والمكان والوجدان والفعل، يصبح عندها مقاربة ذلك الحدث أمراً أكثر ديناميكية وأكثر إدراكاً، بل أكثر ضرورية من كل شيء.
لقد أحيت ثورة الثامن من آذار المجيدة جملة من الحقائق التي كان بعض العابرين والمهرولين، يحاولون دفنها وتغييبها وتشويهها، لاسيما حقائق الهوية والانتماء والمقاومة، لقد كان الفعل العربي في ذلك الوقت مدفوناً تحت الركام والرماد إلى أن جاءت ثورة آذار، التي انتشلته واستنهضته من تحت الرماد، رماد اليأس والإحباط والتبعية والتآمر الاستعماري.
ولكي نفهم هذا الحدث العظيم، حدث الثورة برمزيته وأبعاده وآثاره الاستراتيجية على الفعل العربي، لابد من أن نقرأه من زاوية امتداده وتطوره التاريخي وتأثيره الاستراتيجي على الأحداث التي لحقت به وتأثرت به، لأن من شأن ذلك أن يساعدنا على تقريب الصورة ورؤيتها بوضوح شديد، ليس هذا فحسب، بل من شأن ذلك أن يدفعنا للولوج إلى فهم أعمق وأوسع للأسباب الحقيقية التي كانت وراء الحدث الذي هو في حقيقة الأمر ليس إلا ارتدادا طبيعيا لأحداث تاريخية سبقته ورسمت معالمه ووضعت قاعدته الأساسية ومهدت لحدوثه ليكون بدوره مقدمةً لأحداث وتطورات أخرى تأثرت به، وهذا التسلسل في الفهم والقراءة يضعنا مباشرة أمام الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا الاستهداف الممنهج لوطننا اليوم وطيلة السنوات والعقود الماضية.
لقد كانت ثورة آذار وستبقى إحدى أهم المحطات الهامة والمؤثرة في تاريخ ونضال وكفاح الشعب السوري، لما حملته في توجهاتها ومبادئها وتطلعاتها التي كانت تحاكي الحاضر والمستقبل والتاريخ، والتي كانت تهدف في أبعادها إلى ضرب وإسقاط كل المشاريع والمخططات والمؤامرات الاستعمارية التي كان ولا يزال يحيكها لنا الغرب، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق المبادئ والقيم الخادعة والزائفة والشعارات الرنانة التي تتخذ من الحريات والديمقراطيات وحقوق الإنسان مطية لها.
لقد مرت سورية بأحداث هامة ومفصلية، لكن لم يتسن للكثيرين في توقيت ولادة الثامن من آذار إدراك أهمية تلك اللحظة وفهم أبعادها الاستراتيجية، وذلك يعزى بطبيعة الحال إلى عدم استيعاب اللحظة الزمنية التي أنتجت الحدث لفائض الأثر والأهمية والدلالة الزمنية والجغرافية والتاريخية، سواء على المشهد المحلي والإقليمي، أو على المشهد الدولي، إلا بعد مرور تلك السنون والعقود التي أثبتت صوابية ثورة آذار وما رسخته في وجدان الأمة في الدفاع والتصدي لكل المشاريع الاحتلالية والاستعمارية التي تستهدف وحدة وسيادة وطننا وشعبنا بمبادئه وقيمه وعروبته.
الانعكاس الحقيقي لقيم ومبادئ ثورة آذار تجسد في العام 1970 بعيد قيام الحركة التصحيحية المجيدة التي قادها القائد المؤسس حافظ الأسد والتي لم تكتف بتصحيح مسارها فحسب، بل جعلت منها منطلقاً وقاعدة صلبة لتحقيق مكتسبات وقفزات وإنجازات نوعية على كافة الأصعدة والمستويات.
قد يكون الحديث عن منجزات ومبادئ وقيم ثورة آذار من الأهمية والضرورة بمكان في هذه المرحلة العصيبة التي يمر بها الوطن، حيث يعيد التاريخ نفسه لجهة الحاجة الحتمية لإعادة إنعاش وإحياء قيم ومبادئ الثورة الحقيقية التي تقاوم وتجابه وتتصدى لكل المشاريع الاستعمارية التي استطاع الشعب السوري من خلال إيمانه العميق بتلك القيم والمبادئ التصدي لها وإحباطها.
إن التشبث بروح ومبادئ ثورة الثامن من آذار بات اليوم ضرورة ملحة بعد أن تكالبت على سورية وحوش الإرهاب والاستعمار، وهذا ما يوجب علينا جميعاً ومن منطلق الواجب الوطني والمسؤولية الأخلاقية والتاريخية والوطنية، مواصلة مسيرة التحرير والتطهير ومكافحة الإرهاب ومواجهة الغزاة والمحتلين والطامعين، وصولا إلى إعادة الإعمار والبناء، وترسيخ حوامل الوعي والإرادة والوطنية التي كانت حصن السوريين ودرعهم في الدفاع عن أرضهم ووحدتهم وسيادتهم وكرامتهم.