الثورة – د. ثائر زين الدين:
يوميات الكاتب – مجلّة شهريّة فلسفيّة أدبيّة أصدرها فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي في مدينة بطرسبورغ، عامي 1876 – 1877، وعامي 1880 – 1881. وكان قد نَشَرَ تحت العنوان نفسه “يوميات الكاتب” نصوصاً في مجلّةٍ أسبوعيّة كانت تُسمّى “غراجدانين – المواطن” عام 1873. إن مجلّة دوستويفسكي المذكورة، انطلاقاً من طابِعها الأدبي، قليلةُ المثيل في التاريخ الأدبي الروسي، بل العالمي… وقد سَمّى بعض النقاد هذهِ المجلّة “موسوعة الحياة الروسيّة”.
و لفتَ الناقد الروسي ي.ل. فولفين الانتباه إلى أنَّهُ لا ينبغي أن يفهم من كلمة “كاتب”، في عنوان المجلّة أن دوستويفسكي قد عنى نفسه؛ بصفتِهِ كاتب وناشر هذِهِ المجلّة، بل المقصود أنّها يوميات عامة للمهنةِ نفسها، لمهنةِ الكتابة، وقد كان دوستويفسكي يكتبُ اسمَهُ في نهايةِ المجلّة وليسَ في صفحتها الأولى، كمؤشرٍ على ذلك.
إن “يوميات الكاتب” – هي يوميّات الحياة العامة، مارةً عَبرَ وعي الكاتب الخاص.
أصدرَ بعضُ الكتّاب الروس مجلات مختلفة ومن أهم هؤلاء بوشكين، ونكراسوف، وتولستوي، وسالتيكوف- شدرين. وكان لتلك المجلّات التي أصدرها أولئكَ الكتاب الكبار وجوه متميّزة. غير أننا لا نجدُ واحدةً منها ترتبط ذلك الارتباط الوثيق بأسلوب الكاتب وطريقة عمله مثلما هو شأنُ مجلات دوستويفسكي.
إن تلك المجلّات، بما فيها ” يوميات كاتب” والتي كانت على درجة كبيرة من الأهمية له وللوسط الثقافي الروسي، إنما أطلقها الكاتب لغاياتٍ أدبيّةٍ في المقام الأوّل. ولعلّنا لا نجانب الصواب لو قلنا إنها شكّلت مخبراً إبداعيّاً خاصاً له، يصوغ فيه أسلوبه في الكتابة القصصيّة والروائيّة، ويطوّره ويجددهُ باستمرار، و يختبر نفسه ككاتب وفنان بالكتابة الصحفية، متحققاً من أفكاره الرئيسة وطرائقه الفنيّة، ومطبقاً إياها على عالم الواقع الموضوعي والأحداث والبشر، وليس عالم الوقائع الفنيّة وفضاءات الكتابة الإبداعية فحسب.
“كان يتجلى في صحافة دوستويفسكي، بصورة مباشرة، طابع مواقفه من الواقع، من ناحية، ومن الحركات الفكرية السابقة والمعاصرة له، من ناحية أخرى. وبعدِّه محارِباً بطبيعته، كان دوستويفسكي يتجنب قطعيّاً صياغة برنامج عملي لتطبيق أفكاره ونظرياته المفضّلة. ولعل مجلّاته هي أفضل دليل على ذلك. ومما يستحق الاهتمام، أنه وعلى الرغم مما يميزه من مشاكسة، كان دوستويفسكي يهادن بسهولة، عند الضرورة، الناس المختلفين معه فكرياً، بشكل كامل، ويقدِّر دوماً حق التقدير أهمية وقيمة أعدائه الأيديولوجيين والأدبيين”.
ويضيفُ بوريس بورسوف: “إن كل عبقري روائي يعرف إلى أي خبرة إضافية يحتاج، إلى جانب خبرته الروائية الرئيسة. لو كان دوستويفسكي من دون مجلتي ” فريميا” (الوقت) و ” إيبوخا” (العصر)، ومن دون ” يوميات كاتب” لما كان دوستويفسكي الذي نعرفه. بصفته روائياً، كان يحتاج إلى خبرة الصحافي المتنوعة، دون الحديث عن أن مجلاته هي جزء لا يتجزأ من عصره. إن كل روائي بارز، يعدُّ صحافياً في الوقت نفسه، إلى حد ما. وأنا أرى، أن الصحافة، لدى دوستويفسكي، كانت تشغل حيزاً أكبر مما كانت تشغله لدى أي كاتب روسي آخر”.
رأى دوستويفسكي مهمته الرئيسة، كناشرٍ لـ”يوميات الكاتب” تتمثّلُ في توحيد تطلّعات و آمال الفكر الروسي المبعثرة، المعنيّة بمصير روسيا. ففي بداية الستينيات على سبيل المثال أرّقهُ الصراع الحاد بين أنصار السلافيّة وأنصار الغرب، لأنه كان يتعاطف مع هؤلاء وأولئك، دون أن يتفق حتى النهاية مع كليهما.
كانت موهبة دوستويفسكي في مجال الكتابة الصحفيّة هي الرافعة في عمله الكتابي الإبداعي. و هذا ما تثبتُهُ ” يوميات كاتب”. فعلى صفحاتها “يبرز أمامنا أناس تجريبيون بمصيرهم المتحطم المنهار دائماً. إن الأشخاص الموفقين الهنيئين في حيواتهم – مادة غير مناسبة للكاتب. وعموماً، كان دوستويفسكي بالكاد يهتم بهم. وبعرضه على صفحات ” يوميات كاتب” أشخاصاً حقيقيين، تجريبيين، فقد بقي دوستويفسكي نفسه، في هذه الحالة، على مستوى الإنسان التجريبي. ما يعني أنه بمشاركته في المعاناة كإنسان تجريبي فهو يشارك جميع الناس في معاناتهم”.
ارتقى دوستويفسكي بشرور الواقع الروسي، بوصفها إحدى نتائج النظام الملكي في روسيا، إلى مستوى مقولة الشر العالمي، كما فعل في قصة قصيرة في “يوميات كاتب” لعام 1873، عنوانها “الوسط”، قدّمت لنا امرأة لم تستطع تحمّل عذاب زوجها فأقدمت على الانتحار، كان من شأن هذه المرأة لو كانت في وضع آخر، أن تكون يوليا أو باتريشيا عند شكسبير، أو غْرِتهن في فاوست؟
إن الإنسان، عند دوستويفسكي مهما كان ” صغيراً” أو “حالماً”, يقف وجهاً لوجه أمام كل ما هو غير إنساني في هذا العالم.
في “يوميات كاتب” لعام 1877، يجري دوستويفسكي مقارنة بين إبداع تولستوي وإبداعه، دون ذكر اسمه. و في موضع آخر يفردُ للحديث عن رواية “آنا كارنينا”، التي سحرتهُ مساحةً كبيرة. والتي ظهرت في ذروة نشر دوستويفسكي لـ” يوميات كاتب”– وقد عدّها بمنزلة تحدٍ روسي لأوروبا، وبمنزلة تفوق الروس على الأوروبيين في حل المسائل المشتركة بينهما. ويرى ” إن هؤلاء الناس مثل مؤلف “آنا كارنينا” – هم جوهر معلمي المجتمع، هم معلمونا، ونحن تلاميذهم. فما الذي علمونا إياه؟”، ولن أحدّثكم كثيراً عن هذا المقال المهم لأنكم ستقرؤونه بين المختارات التي ترجمتها من اليوميات.
قبل إصدار اليوميّات، كان دوستويفسكي قد أمضى برفقة زوجه أربع سنوات في أوروبا الغربية في منفى طوعي وقسري في الآن نفسه. وكانت تلك السنوات حافلة بالألم والحزن و العوز والخسارة، فقد رُزق طفلة ثم خطفها الموت، وقد كان طوافه وتجواله في بلدان أوروبا الغربية مهماً جداً. ذلك أنه دفعه من جديد للاهتمام بالمسائل الأبديّة الوجوديّة، التي طرحتها أوروبا، وريثة الحضارات القديمة، ولم تستطع تقريرها.
لعلّ التجربة الأولى لإصدار “يوميات كاتب” جاءت على شكل باب خاص في مجلة “غراجدانين-المواطن”، التي رأس دوستويفسكي تحريرها من يناير/ كانون ثاني 1873 إلى مارس/ آذار 1874. وفيما بعد، خلال عامي 1876-1877، صدرت “يوميات كاتب” بأعداد شهرية، على شكل مجلة أدبية- روائية شهرية. حتى إذا شرع بكتابة رواية “الإخوة كارامازوف” اضطر إلى وقف إصدارها. و لم تر النور عامي 1878 و 1879. وفي عام 1880 صدر عدد واحد من المجلة (عدد آب/ أغسطس) يحمِلُ خطبة دوستويفسكي بمناسبة الاحتفال بإقامة النصب التذكاري لبوشكين، وبعض المقالات النقدية المرتبطة به. أما العدد الأخير من المجلة فقد صدر بعد موت دوستويفسكي، في كانون الثاني/ يناير 1881.
يرى الكثير من نقاد وقرّاء دوستويفسكي ارتباطَ أعمال الكاتب الروائيّة بصورة وثيقة بتجربته كناشر وكمحرر، وعموماً كمُلهِم لمجلتي” الوقت” و “العصر” كما هي الحال مع روايتي “الجريمة والعقاب” و “الأبله” ، ويشيرُ بوريس بورسوف إلى أنَّ رواية “الشياطين” قد كتبها دوستويفسكي متذكراً هاتين المجلتين، ومفكراً بإصدار ” يوميات كاتب”. وفيما يتعلّق بروايتيه الأخيرتين “المراهق” و “الإخوة كارامازوف” فمن غير الممكن وضع تصور صحيح عنهما، من دون صلتهما بـ ” يوميات كاتب”.
ومع أنَّ “يوميات كاتب” كانت ضرورية لإبداع دوستويفسكي الروائي، كما أشرنا لكنها لم تكن بحد ذاتها إبداعاً روائياً. وإن تكن قد ضمّت في بعض أعدادها أعمالاً قصصيّة وروائيّة رائعة مثل “حلم رجل مضحك”، و “حبة الفول”، و”الوديعة”، و “طفلٌ عند شجرة عيد الميلاد”، وقد تجاوزت هذه المؤلفات أطر “يوميات كاتب”، واكتسبت حياة إبداعيّة روائيّة وقصصيّة خاصة.
حققت “يوميات كاتب” انتشاراً واسعاً وشهرة غير قليلة. ازداد عدد المشتركين بها بصورة لافتة. ولعلَّ مَردُّ ذلك إلى ازدياد عدد المتعلمين في روسيا ومن ثمَّ القراء والمثقفين. وقد رغبَ كثير من هؤلاء بمعرفة مواقف دوستويفسكي مما يحدث في روسيا من وقائع و أحداث اجتماعيّة وسياسيّة بدءاً من الانتحار والسحر والشياطين وصولاً إلى المسألة التركيّة والحرب الروسيّة التركيّة والرسالة السلافيّة وما شابه ذلك. وقد كان دوستويفسكي عند حديثه عن تلك الأحداث يبرز في المقام الأول الجانب الأخلاقي، والدوافع النفسية.
لعل من جوانب أهميّة المجلّة أيضاً للكاتب- ما رافق ظهورها من مراسلات كثيرة بينه وبين عدد كبير من قرائها، حيث راحوا يسألونه الرأي ويطلبون نصيحته في أمور عديدة؛ منها كيفيّة التصرف في هذه الحالة أو تلك. وهذا الموقف أو ذاك.
إن مضمون “يوميات كاتب” فسيح جداً، تصعب الإحاطة به؛ وتنوع موادها، الصادرة بقلم كاتب واحد، يصعب تصوره. ومع ذلك، فإن وحدتها ظاهرة للعيان. وتظهر هذه الوحدة، بادئ ذي بدء، في نبرة وطريقة حديثه عن كل شيء. إنه حديث شخص واحد، حديث مفتوح للجميع، لكل من هو يعيش، أو عاش يوماً أو سيعيش مستقبلاً في هذا العالم. ومن الممكن، حقيقة، أن ندعو هذا كله، اعترافاً، واعترافاً صريحاً، إذا ما عددنا الصراحة سمة الاعتراف. ولكن، وإلى جانب المعترِف نرى أيضاً كاهن الاعتراف- وكلاهما يجتمعان في شخص واحد، أي أن المعترِف يعترف بنفسه أمام نفسه، يتحدث عن آثامه وأخطائه، ويعاقب نفسه إلى حدٍ كافٍ عليها، دون أن يتعهد بعدم ارتكابها مستقبلاً” .
وقد يستغرب القارئ حين يسمعني أكرر مع آخرين سبقوني إلى هذه الفكرة: إن “يوميات كاتب” شكّلت مُختبراً لعديدٍ من أهم روايات دوستويفسكي؛ ففي هذا المختبر تشكّلت الفكرة الرئيسة لرواية “الإخوة كارامازوف”. وصيغت إلى حدٍّ بعيد بعض شخصياتها. ولا سيما شخصية فيودور بافلوفيتش كارامازوف.
كما وُلدت في “اليوميّات” صورتا شخصيتي سمير دياكوف وراكيتين.
إن تاريخ الأدب الروسي لم يعرف مثل هذا الإصدار الجريء والخطير مثل “يوميات كاتب” دوستويفسكي. كان الكاتب يقيِّم، علانية، شخصيته- وكلما عرَّضها للنقد أكثر أكسبها قيمة أكبر. ومن ناحية أخرى، فقد جعل أفكاره ومخططاته الإبداعية في متناول الجمهور والمجتمع، فلم يقاسمها لزميل أو رفيق ما، بل شارك فيها روسيا كلها. وهو بهذا، كان يعلن عن القيمة الاجتماعية- التاريخية لإبداعه.