الثورة – أديب مخزوم:
يوماً بعد آخر نتأكد أن صالة المركز الوطني للفنون البصرية في دمشق، والتي يقام بقاعاتها الفسيحة أحياناً، ثلاثة معارض في وقت واحد، هي الفسحة المهيأة لاستضافة المعارض الأكثر ارتباطاً بتيارات ما بعد الحداثة والمعاصرة التشكيلية، وبالتالي فمعظم مايعرض فيها من لوحات، وأعمال تركيبية وتجهيز وديجيتال آرت وغيرها، تبدو متطرفة في حداثتها، وكل هذه الأعمال تشكل امتداداً لما أفرزته الفنون الغربية من اختبارات ومغامرات، من فترة الدادائية وصولاً إلى الفنون التي تعيد تدوير نفايات المجتمعات الاستهلاكية، ومروراً بتقنية اعتماد الكولاج بإلصاق قصاصات وعناصر مهملة على سطح اللوحة، والتي عرفتها عواصم الفن الكبرى، في النصف الأول من القرن العشرين.
إنها أعمال تبدو إشكالية في أحيان كثيرة، لأن التشكيل البصري المطروح هنا يدخلنا في جوهر الحالة الدادائية والوحشية للون التعبيري والتجريدي المرتبط بإيقاعية التشكيل العفوي والتلقائي والبدائي أحياناً، فالجماليات التي نجد تجلياتها في معرض رهام الحايك على سبيل المثال، تتركز حول مدى تفاعل الفنون التجريدية، المتطرفة في حداثتها، مع تأملات التراث الشرقي، في خطوات انفتاحها على الوسائل التقنية المغايرة.
وخلال جولتنا على المعارض الثلاثة المقامة حالياً ( وخاصة معرض مقتنيات المركز، ومعرض رهام الحايك) نخرج بانطباعات عديدة جوهرها أن الفن التشكيلي السوري من خلال معظم النماذج المختارة هنا ( وليس كلها ) لم يكن في مراحله المتعاقبة ( من جيل المخضرمين إلى التجارب الشابة ) سوى صدى لمعطيات الفن الأوروبي الحديث والمعاصر.
هذا بالإضافة إلى انجراف الأجيال الفنية الجديدة وراء التقليد، والتفاعل العفوي مع كل ماهو سهل ومستهلك في فنون الغرب، تحت ستار الحداثة ومابعدها.
فاللوحات المستعادة في ( المعرض الجماعي ) والتي سبق وشاهدنا بعضها في المعارض الفردية لبعض هذه الأسماء في نفس المكان، تفسر إحساس ومشاعر الفنان الداخلية، وخلفية اللوحة التي تأتي أحيانا بإيقاع لوني موحد يحتمل درجة من الخشونة والسماكات الناتجة عن خلط الألوان مع الرمال والمواد المختلفة (ميكست ميديا)، والتي تدفع اللوحة مرة أخرى بعيداً عن الأطر الجمالية الواقعية والثقافات الجمالية المتوازنة.
وفي استعراضي لأجواء وتقنيات هذا المعرض، سأحاول الذهاب في انطباعاتي النقدية والتحليلية، أبعد من الظواهر الخارجية للعمل الفني، لاستشفاف إشكاليات الوسائل التقنية، وأبعاد جمالية الجانب التقني الحامل ثمرة وخلاصة كل تجربة على حدة.
في لوحات ( رهام الحايك ) الأمر مختلف، حيث تبرز الشفافية اللونية، ومحاولات الاستفادة من كل الاختبارات الحديثة التي تدخل في تشكيل العمل القائم بالدرجة الأولى على تقنية ” الكولاج “، فهي تلصق على سطح اللوحة كل مايخطر على بال، لإظهار هاجس تمردها على كل الوسائل التصويرية المألوفة، في خطوات الوصول إلى التأثيرات البصرية المطلوبة ( التي تتخللها مقاطع شعرية قديمة مكتوبة بخطها العفوي الذي يتوافق مع عفوية اللون ). وهذه التشكيلات الناتجة عن تداخل وتجاور العناصر والخامات المختلفة لها قيمها الخاصة في معايير علم الجمال الحديث، ويمكن أن تدخل أو توظف أو تطبع على الأشياء الاستعمالية المحيطة بنا، وبذلك تكون الأشياء المهملة قد دخلت في عمق حياتنا اليومية.
وفي قاعة أخرى نتابع معرض الفنانة ( أسماء فيومي ) والذي يشكل امتداداً لتجاربها التي قدمتها خلال مسيرتها الفنية الطويلة، والتي تتركز حول الوجوه المبسطة والمتداخلة مع الخلفيات التجريدية بحس طفولي في أكثر الأحيان.
هكذا تبدي رغبة من سنوات انطلاقتها الأولى، في استخدام ألوان عفوية، ومتقاربة تذهب فيها إلى تقاطعات انفعالية، وتطل في لوحاتها الرموز التي تكشف عن اهتماماتها برسم محيط أحلام الطفولة، مع انحياز واضح نحو الاختصار والتبسيط وإضفاء الروح الفنية والخصوصية الأسلوبية في التأليف والتنفيذ معاً، ولا يقتصر اعتمادها على تداخل اللمسات اللونية العفوية، عبر ما تقدمه من تحويرات للأشكال (الوجوه والطيور والأشكال المعمارية والأطراف..) . وهكذا تتحول الوجوه إلى حالات طفولية، حيث تقوم بتحوير الأشكال الإنسانية وتبسيطها بطريقة تجعل الوجوه أقرب إلى وجوه اللعب أو الدمى.
وتتحول اللوحة إلى صياغة تعبيرية تتحرك بعيداً عن سلطة المشهد الواقعي وخارج توجهات السوق الفني التجاري، كونها لا تلتزم هنا إلا بنقاط الارتكاز الأسلوبية التي تجعل لوحاتها متفردة ومتميزة وخاصة. وهذا يمنح السطح التصويري ملامس خشنة تجعل اللوحة أكثر اقتراباً من توجهات الفن الحديث، الذي أطلقته صالونات العواصم الأوروبية في القرن العشرين.
التالي