الثورة – رشا سلوم:
رحل محمد الماغوط عام ٢٠٠٦م بعد رحلة عطاء في الشعر والنثر والأحزان..
محمد الماغوط شاعر الاحزان المتمرد والعراف الذي قرأ الحزن تحت ضوء القمر، وهو الشاعر الذي لم يتخذ الفرح مهنة كما يقول.
واحد من أشهر شعراء قصيدة النثر على امتداد الوطن العربي.
شكلت تجربته الشعرية والمسرحية منعطفاً في المشهد الإبداعي.. كان حاداً فيما يكتب.. وكأنه بسيف الكلمة يشق غلاف الظلام ليقول مادام حاضركم هكذا أيها العرب فإن غدكم ليس أفضل..
الماغوط عراف الحزن والنبوءة كما زرقاء اليمامة وأمل دنقل في قصيدته لا تصالح.
في ذكرى رحيله ليس أفضل من أن نختار باقة من قصائده التي تسري كما ينبوع ماء عذب كلما شربنا منه قلنا هل من مزيد..؟
ومن قصيدة الغرباء نقتطف:
قبورنا معتمةٌ على الرابيه
والليل يتساقطُ في الوادي
يسيرُ بين الثلوج والخنادق
وأبي يعود قتيلاً على جواده الذهبي
ومن صدره الهزيل
ينتفض سعالُ الغابات
وحفيفُ العجلات المحطّمه
والأنين التائهُ بين الصخور
ينشدُ أغنيةً جديدةً للرجل الضائع
للأطفال الشقر والقطيع الميت على الضفة الحجريه.
أيتها الجبالُ المكسوةُ بالثلوج والحجاره
أيها النهرُ الذي يرافق أبي في غربته
دعوني انطفىء كشمعةٍ أمام الريح
أتألّم كالماء حول السفينه
فالألم يبسط جناحه الخائن
والموتُ المعلقُ في خاصرة الجواد
يلج صدري كنظرةِ الفتاة المراهقه
كأنين الهواءِ القارس.
وعلى كرسي الاعتراف ينشد الماغوط:
والريح تعصف والثلج يتساقط من حولي
جلست في كوخي الشعري المتواضع
ودفنت كستنائي العاطفية والجسدية والتاريخية
ورحت أنتظر
يا رب…
ساعدني على قول الحق
ومواجهة الواقع
وتحمّل العطش
والجوع
والحرمان
وألا أردّ سائلاً
أو أنهر يتيماً
أو استرداد نفقات الأمل على الأمل.
يد واحدة لا تصفق
إلى الجحيم
ألم تشبعوا تصفيقاً بعد؟
ترميم زهرة
أو اقتحام قاعة
كله سيّان
أسناني بصلابة منجلي
وألتحف حقولي وسنابلي
وأنام على الطوى…
دموعي بعدد أخطائي
وأخطائي بعدد التزاماتي
وشجاعتي بعدد أسلحتي
وتردّدي بعدد جبهاتي
وساعات نومي بعدد كوابيسي
وكوابيسي بعدد وسائدي واتساع بلادي
وبلادي باتساع أرصفتي ودفاتري.
و عن الحب و سرير تحت المطر:
الحبُّ خطواتٌ حزينةٌ في القلب
والضجرُ خريفٌ بين النهدين
أيتها الطفلة التي تقرع أجراس الحبر في قلبي
من نافذة المقهى ألمح عينيك الجميلتين
من خلال النسيم البارد
أتحسَّسُ قبلاتكِ الأكثر صعوبةً من الصخر.
ظالمٌ أنت يا حبيبي
وعيناك سريران تحت المطر
ترفق بي أيها الالهُ الكستنائي الشعر
ضعني أغنيةً في قلبك
ونسراً حول نهديك
دعني أرى حبك الصغير
يصدحُ في الفراش
أنا الشريدُ ذو الأصابع المحرقة
والعيونُ الأكثر بلادة من المستنقع
لا تلمني إذا رأيتني صامتاً وحزيناً
فإنني أهواك أيها الصنمُ الصغير
أهوى شعرك، وثيابك، ورائحة زنديك الذهبيتين.
كن غاضباً أو سعيداً يا حبيبي
كن شهياً أو فاتراً، فإنني أهواك.
يا صنوبرةً حزينة في دمي
من خلال عينيك السعيدتين
أرى قريتي، وخطواتي الكئيبة بين الحقول
أرى سريري الفارغ
وشعري الأشقر متهدلاً على المنضدة
كن شفوقاً بي أيها الملاك الوردي الصغير
سأرحلُ بعد قليل، وحيداً ضائعاً
وخطواتي الكئيبه
تلتفت نحو السماء وتبكي.
اما الشعر الذي امتهنه الشاعر فقد صارحه بصوت عال:
سئمتك أيها الشعر، أيها الجيفةُ الخالده
لبنان يحترق
يثب كفرس جريحة عند مدخلِ الصحراء
وأنا أبحثُ عن فتاة سمينه
أحتكُّ بها في الحافله
عن رجلٍ عربي الملامح، أصرعه في مكانٍ ما.
بلادي تنهار
ترتجفُ عاريةً كأنثى الشبل
وأنا أبحث عن ركنٍ منعزل
وقرويةٍ يائسة، أغرّر بها.
يا ربة الشعر
أيتها الداخلةُ إلى قلبي كطعنة السكين
عندما أفكر، بأنني أتغزَّل بفتاة مجهوله
ببلادٍ خرساء
أنا الزهرة المحاربه،
والنسرُ الذي يضرب فريسته بلا شفقه.
أيها العرب، يا جبالاً من الطحين واللذَّه
يا حقول الرصاص الأعمى
تريدون قصيدةً عن فلسطين،
عن الفتحِ والدماء؟
أنا رجلٌ غريبٌ لي نهدان من المطر
وفي عينيَّ البليدتين
أربعةُ شعوبٍ جريحة، تبحث عن موتاها.
كنت جائعاً
وأسمع موسيقا حزينه
وأتقلب في فراشي كدودة القز
عندما اندلعتْ الشرارة الأولى.
أيتها الصحراء… إنك تكذبين
لمن هذه القبضةُ الأرجوانيه
والزهرةُ المضمومةُ تحت الجسر،
لمن هذه القبورُ المنكّسة تحت النجوم
هذه الرمالُ التي تعطينا
في كل عام سجناً أو قصيده؟
عاد البارحةَ ذلك البطل الرقيق الشفتين
ترافقه الريحُ والمدافع الحزينه
ومهمازه الطويل، يلمع كخنجرين عاريين
أعطوه شيخاً أو ساقطه
أعطوه هذه النجوم والرمال اليهوديه.

التالي