هذه دمشق العروبة والمقاومة إنها المدينة التي تختصر التاريخ وعاصمة أول دولة عربية بعد أن كانت المدينة المنورة مركز أول دولة إسلامية فدمشق كانت عاصمة إمبراطورية عربية أعرابية ففيها عربت الدواوين واعتمدت العربية بدل لغة اليونان والروم والعملة العربية الدرهم الإسلامي بدل العملة الفارسية فدمشق مذاك أصبحت قلب العروبة النابض مع الإشارة إلى أن الهجوم على الدولة الأموية وسورية راهناً ليس لنسب حكامها الديني أو المذهبي وإنما لمذهبها وهويتها السياسية والحضارية أي النظام السياسي العروبي للدولة ودمشق اليوم تحارب لهوية نظامها السياسي العروبي وليس النسب الديني أو المذهبي كما روج دعاة الحرب عليها عبر أبواقهم الإعلامية وأصواتهم المبحوحة لذلك نرى الهجوم اليوم على العروبة ومحاولات تشويه وسرقة تاريخ وهوية سورية العربي هو أخطر ما نواجهه من تحديات فالعرب في سورية هم سكان أصليون وليسوا غزاة جاؤوا مع الفتح الإسلامي كما يروج الشعوبيون الجدد وثمة فرق ما بين المسيحية العربية والمسيحيون العرب الأقحاح والروم المسيحيون الغزاة المحتلين فالمسيحيون الغساسنة العرب قاتلوا مع المسلمين أو على الأقل لم يقاتلوهم عندما فتحت دمشق في صدر العصر الإسلامي حررت ولم تفتح كما القسطنطينية أو غيرها من مدن وأمصار ولم تحتل أو يستولى عليها، الأراضي العربية في بلاد الشام والعراق واليمن كانت محتلة من الروم والفرس والأحباش فحررها العرب المسلمون ولو كان الأمر غير ذلك لما وجدنا مسيحيين في بلاد الشام والعراق حيث تشير إحصائيات تاريخية إلى أن عدد المسيحين واليهود في تلك البلاد بقي لفترة طويلة أكثر من المسلمين وبالمناسبة كان عدد اليهود في بغداد في القرن الثامن عشر أكثر من المسلمين ولكن نسبة التزايد عند المسلمين أكثر ما يفسر نسبة الزيادة إضافة للهجرة إلى الخارج بعد قيام الكيان الصهيوني.
وبالعودة لمطلع القرن العشرين وبعد سقوط الإمبراطورية العثمانية كان العمل جار على أن تكون دمشق عاصمة الدولة العربية الموحدة التي تضم بلاد الشام والعراق والحجاز ورفع العلم العربي فيها تفاءل العرب بمستقبل أمة واعد ولكن المؤامرة التي دبرها وحاكها المستعمرون الإنكليز والفرنسيون كانت قد سبقت ذلك فاجهضوا الحلم العربي ولم يقفوا عند ذلك بل أمعنوا في تقسيم وتقاسم المنطقة العربية إعمالا لاتفاقية سايكس بيكو وما إن أحتل الفرنسيون سورية حتى كشفوا عن مخططهم الخبيث المتعلق بتقسيم سورية على أسس طائفية وهو ما واجهه السوريون في كل المناطق برفض واستهجان واضح ليس هذا فقط بل اندلعت الثورات السورية منذ أن وطأت أقدام المستعمر الفرنسي الساحل السوري قبل دخول غورو دمشق 1920 بسنتين حيث قاد الشيخ صالح العلي ورفاقه الثورة ضد الفرنسين بتنسيق كامل مع ثوار دمشق وجبل الزاوية والفرات الذين لم تلن لهم قناة وكانت الملحمة الكبرى في ميسلون في تموز 1920 حيث تصدى الجيش العربي السوري بقيادة البطل يوسف العظمة للمستعرين الفرنسيين الغزاة واستشهد وزير الدفاع السوري ليكون أول وزير دفاع يقود جيشاً ويستشهد في ساحة المعركة في ملاقاة الأعداء ومع سقوط دمشق بيد الغزاة الفرنسيين هب السوريون في كل مكان لمقاومة الاحتلال بكل أشكال المقاومة وكانت ذروة ذلك الثورة السورية الكبرى التي انطلقت من جبل العرب الأشم بقيادة الباشا سلطان الأطرش وتستعر وينتشر أوراها في كافة أرجاء سورية وتزلزل الأرض تحت أقدام المستعمر الفرنسي الذي ذاق طعم الهزيمة العسكرية والسياسية في دولة ناشئة لم يتح لها أن تستكمل بناء عناصر قوتها وسيادتها بفعل مؤامراته القذرة إلا بعد نيلها الاستقلال بعد كفاح استمر أكثر من ربع قرن.
لقد شكل استقلال سورية فرصة ليس لبناء دولة وطنية فقط وإنما لانطلاق الفكر القومي وعودة الروح للعروبة حيث اعقب الاستقلال تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي ليكون أول تنظيم قومي جامع على مستوى الساحة العربية إضافة إلى دعم السوريين لحركة التحرر العربية سواء في الجزائر أو اليمن أو فلسطين وغيرها من أقطار عربية كانت تحت الاحتلال ولم تقف الأمور عند ذلك بل انطلقت سورية لتكون دول فاعلة في مواجهة المشاريع الاستعمارية سواء كان ذلك حلف بغداد أو ما اطلق عليه ملء الفراغ الذي أطلقه الرئيس الأمريكي ايزنهاور وكذلك مشروع جر مياه نهر الأردن وكذلك الإنزال الأمريكي في لبنان عام 1958 والوقوف إلى جانب مصر في العدوان الثلاثي عام 1956 وكسر احتكار السلاح الغربي باستيراده من دول أوروبا الشرقية وتحديدا من تشيكوسلوفاكيا الدولة الاشتراكية آنذاك ولعل أهم حدث شهدته المنطقة العربية آنذاك تمثل في قيام الوحدة بين سورية ومصر عام 1958 ما شكل أقوى ضربة توجه للمشاريع الغربية والقائم على تكريس تقسيم الأمة العربية والحيلولة دون قيام الدولة العربية الواحدة شأنها شأن الأمم الأخرى.
إن ما تمت الإشارة اليه يؤكد مقولة إن سورية والسوريين قد حققوا استقلالاً كاملا وعلى كل المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية وفوق ذلك استقلال القرار الوطني وتحرره من كل أشكال الارتهان والمصادرة إضافة لانطلاق سورية لحركة بناء داخلي وطني وحراك قومي ولاسيما بعد ثورة البعث عام 1963 وحتى الآن ولعل ما يفسر كل هذا الحقد الغربي على سورية هو أنها لم تدخل بيت الطاعة الغربي الصهيوني وواجهت كل المشاريع التي تستهدف المنطقة وهويتها الحضارية والعروبية وسعيها لبناء دولة قوية تكون نواة لدولة عربية تشكل حلماً عربياً ولعل ذات السهام التي وجهت لأول إمبراطورية عربية في التاريخ بهدف كسرها وهزيمتها وهي الدولة الأموية هي ذاتها التي تستهدف دمشق اليوم لأنها قلب وذراع ووجدان العرب وأمل أبناء الأمة.
إن اهم ما أسفرت وكشفت عنه الحرب على سورية خلال العقد المنصرم يؤكد حقيقة أن ما سعى وعمل من أجله المستعمر الفرنسي وحلفاؤه الغربيون عام 1920 وهو تقسيم سورية وتقاسمها لازال في مخبأ مطابخهم السياسي الاستعماري بدليل ما يجري في شمال شرق سورية من محاولات لاقتطاع جزء من الجغرافيا السورية عبر دعمهم لقوى انفصالية تسمى قوات سورية الديمقراطية وكذلك ما هو قائم في الشمال الغربي والمتمثل في سيطرة للقوات التركية على بعض الأراضي السورية وهو أيضا يدخل في اطار حلم تركي عثماني مخبوء يستهدف كامل المنطقة العربية.
إن ذكرى الجلاء بقدر ما هي مناسبة نحتفل بها ونحييها ونكرسها صورة جميلة في ذاكرتنا الجماعية بوصفنا أبناء لذلك الوطن العزيز سورية هي فرصة لتبصر ما مضى واستخلاص الدروس والاستفادة من التجارب ولعل أهمها أن الوحدة الوطنية السورية والتفاف السوريين حول وطنهم وعناوينهم الكبرى وتمسكهم بوحدة ترابهم هو من افشل مشروع تقسيم سورية على أسس طائفية ودينية وعرقية فالروح الوطنية السورية هي التي انتصرت على مشروع قادته أكبر قوة استعمارية في القرن العشرين وهي فرنسا وشريكها الاستعماري بريطانيا النقطة الثانية هي توفر قيادة وطنية لسورية منذ ما بعد الاستقلال وحتى الآن هي نتاج إرادة السوريين الحرة وليس نتاج أو فائض قوة خارجية ما جعل القرار الوطني السوري قراراً مستقلا ونابعاً من مصالح وطنية ولم يرتهن لقوى خارجية أيا كانت حتى لو كانت قوى أو دولا حليفة وقفت إلى جانب سورية في مفاصل معينة من تاريخها السياسي فارتهان القرار السياسي لقوى خارجية يضعف الروح الوطنية ومسألة الانتماء ويوفر فرصاً للقوى الخارجية لاختراق البنية الوطنية ولاسيما من ضعاف النفوس، الأمر الآخر هو بناء القوة الذاتية والاستثمار الأمثل للطاقات الوطنية وبناء جيش وطني على عقيدة صحيحة ونظيفة وقومية فالجيش العربي السوري هو جيش لكل السوريين وهو جيش عربي العقيدة قاتل أبناؤه ودربوا في الجزائر وفلسطين واليمن وليبيا ولبنان ومصر وحيث الحاجة والضرورات القومية فهو استهدف ويستهدف لهذه الأسباب من هنا تأتي أهمية تعزيزه ومنع وجود أية مجموعات أو ميلشيات مسلحة خارج إطاره أياً كانت مسمياتها ودواعيها.
ويبقى بناء دولة المواطنة والعدالة وسيادة القانون والشراكة في الغرم والغنم دولة المؤسسات التي يقع على مواطنيها جميعاً ذات الحقوق والواجبات دولة الكرامة هي النواة الصلبة التي لا يمكن كسرها أو اختراقها مهما كان حجم ودرجة الاستهداف الخارجي فحصن الوطن وفرس الرهان هو المواطن الحر الكريم المنتمي لوطنه المضحي في سبيله الصوفي في حبه وهذه هي رسالة صانعي الجلاء وفجر الاستقلال.
اضاءت -د . خلف المفتاح