الثورة – رنا بدري سلوم:
تزامن الإصدار الفصليّ ” لمجلة التراث العربيّ ” مع يوم اللغة العربية، وبعد اطلاعي على دراسات نقّاد وأكاديميين مبدعين محترفين في مضمار اللغة والأدب، أعدوها في محور اللغة والنحو ومحور الأدب والثقافة لتوثيق ذواتٍ تراثيةٍ مبدعة لم تعط قيمتها الحقّة في زمن ما، فإني أؤكد أن لغتنا العربيّة وتراثنا بخير، طالما أن هناك عيونا ترصد بوعي وإدراك الحركة الثقافية والإبداعية والشعريّة، وفي المقابل هناك من يتوق إليها ويحقّ لنا، وكما قدّم رئيس اتحاد الكتاب العرب الدكتور محمد الحوراني والمدير المسؤول عن المجلة : ” تبقى الروح ولهى إلى المزيد من مبدعي الأمّة، لكيلا نقف عند حدود أرسطو وأفلاطون وسيبويه وابن رشد، بل لنستولد من تلك القامات من يقف ندّها في ساحات ثقافة الفكر والتراث والمعرفة، وهذه /الأمّة ولغتها وحضارتها المعرفية/ ثلاثي كفيل بإنتاج مستلزماتها التاريخية والإبداعية في كل زمان ومكان”.
“أدب الاعتراف وتجلياته في شعر أبي محجن الثقفي” كان البحث الأول للدكتور حسين جمعة مثالاً ناصعاً للحديثِ عن “أدب الاعتراف” “الثقفي” الذي أولع بشرب الخمر منذ العصر الجاهلي، وظلّ متشبثاً باقتناص اللذاذة والصبابة وعودته للخمر بعد كل عملية جلد وإقامة العقوبة عليه لمخالفته تعاليم الدين. وقد أسلم سنة 9 هجري، يوضح البحث تجاهل المحدثين للقدماء، ويبين مفهوم أدب الاعتراف سماته وأدبياته التي يتصف بها باعتماده على لحظة الاعتراف وما قبلها، واتصاف التعبير عنها بالومضة الأدبية المدهشة أو الفكرة التجاوزية، وهو أدب مثله مثل الأدب الوجيز.
أما “المركزيات الثقافية لنسق المركز في أشعار عروة بن الورد ” هي قراءة في ضوء النقد الثقافي للدكتورة غيداء علي قادرة التي عرّفت به أنه أشبه بوثيقة تعكس صراع المتضادات وجدل الثنائيات التي تتسيدها ثنائية (الهامش / المركز) إذ يظهر شعره مركزيته، إن الحسّ الفلسفي والرؤيوي في شعره دفع الدكتورة قادرة على الخوض في ميادين التشكيل الفني والثقافي، إضافة إلى عدد الدراسات الخجولة عن شعر ابن الورد، بدءاً من السياق التاريخي والثقافي وصولاً للمركزية الثقافية في شعره، الذي عيّر بأمّه بنت قبيلة نهد قضاعة وهي أقل منزلة من أبيه، إن نظام الصعلقة في ثقافة عروة رهين بصفة الإرادة والفعل، وهذا إعلان ورسالة للمجتمع.
وفي بحث ” مظاهر النزعة الفكريّة في (رسالة الحياة) للتوحيدي” تؤكد الدكتورة لميس عبد العزيز داود، استطاعة ” أبو حيان” أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء أن يقدم الفلسفة في أسلوب أدبي، وجعلها مقبولة مفهومة حتى عند غير المتخصصين بل محتوية على عنصر الإمتاع الذي يحتوي عليه النص الأدبي في المعتاد، أما رسالة الحياة واحدة من رسائله المهمة التي تكشف لنا عقليّته الموسوعية التي تهتم بكل شيء، “الحياة الإلهية والإنسانية والملائكية”، والموت والمعاد كل ذلك بأسلوب أدبي رفيع فيه جزالة اللفظ ونصاعة الأسلوب، فقد ربط المقدمات بالنتائج على شكل قيسة وأدلة وبراهين، وقد أحسن استعمال آلة المنطق إلى حدٍ أصبح فيه يحتج للشيء وضده ويحشد لكل منهما حججا وبراهين .
وبالعودة إلى تراثنا المكانيّ، لا تزال ” أنطاكية شقيقة دمشق” تتناسب في جمال الطبيعة وعجائب العمران ووحدة التاريخ ومنزلتها الحضارية لدى العرب قبل الإسلام، وقد أشار بحث “عجائب أنطاكية في كتب التراث العربيّ” للدكتور فاروق اسليم بضرورة أن تحظى أنطاكية تراثياً باهتمام خاص من الباحثين العرب في مجالات التاريخ والتراجم والفنون والآداب، فقد عرض البحث المرويّات والأخبار الخاصة بعجائب حيوات أنطاكية وهوامها وناسها وطبيعتها وناقش ما يكتنف تلك المرويّات من أوهام كانت حقائق في وعي الذاكرة الشعبيّة التراثيّة.
أما محور اللغة والنحو ، فقد تصدّره عنوان “المنهج الاجتماعي في درس اللغة عند العرب” للدكتور أحمد محمد قدور، ذهب في خلاصة بحثه أنه ليس ضرورياً أن يوافق منهج العرب ما يريده منهم اللسانيون الوصفيون وغيرهم، إذ للعربية ظروفها وخصائصها التي ينبغي أن تراعى دائماً كلما حدث اقتباس أو مراجعة أو تجديد.
” مضى على علم اللسانيات مئة عام، تدرجت خلالها في التطور وكثر الحديث فيها عن العلاقة بين التراث العربي واللسانيات الحديثة” هو فحوى بحث “قضايا لسانيّة في التراث العربي اللسانيات النصية انموذجاً” للدكتورة فاطمة حسن التي أشارت فيه إلى أن التراث مصدر الأصالة واللسانيات الحديثة منبع الحداثة، ويعد الاهتمام بالقرآن الكريم وإثبات إعجازه أساساً لاهتمام العلماء العرب بالتماسك النصيّ الذي يظهر لاحقاً في اللسانيات النصيّة الغربيّة.
” المتماثل والمتباين في التركيب النحوي في القرآن الكريم” قصة آدم عليه السلام نموذجاً للدكتورة أسماء قاسم الشيخ، بحث مفصل لأساليب القصة وتنوعها بين أسلوب الأمر الإنشائي الذي كان أكثر الأساليب البلاغية ظهوراً في القصة، تلاه أسلوب النفي الخبري ثم الاستفهامي الإنشائي ثم النداء الإنشائي، جاء السرد في الفعل الماضي، وأسلوب الاستثناء، والتوكيد، وفي الختام يلاحظ كيف يراعى اختيار المفردة وكيف تتناسب مع كل وجه يقتضيها فكأنها منحوتة لموضعها نحتاً.
وفي ختام ” مجلة التراث العربي ” الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب، كانت الدراسة التطبيقية على خطبة الرسول الكريم يوم حُنين للمعيد حمزة “أحمد هباش” بإشراف الدكتورة زهرة الشيخ عبود، بعنوان “أثرُ المركّباتِ الجوابيّة في التماسك النصيّ” يحاول البحث إظهار قيمة النحو والمزاوجة في التحليل بين نحو الجملة ونحو النص الخطابي، محاولة جادة لدمج تراثنا النحويّ القديم مع معطيات الدرس اللساني الحديث، بغية دفع عجلة نحونا العربي إلى الأمام لمواكبة المستجدات.