الثورة – أديب مخزوم:
مرت في 29 نيسان 2022 الذكرى السنوية الأولى لرحيل الفنانة التشكيلية سوسن جلال، التي أبرزت قدرات تعبيرية وتقنية، ووصلت إلى خصوصية في رسم المائيات، وأفسحت لوحاتها المجال في اختيار زوايا متنوعة، وفي تشكيل لوحات الزهور باتساع ورحابة ألوانها. ولقد كانت ألوان الزهور والورود في مائياتها قابلة باستمرار لطواعية التغيير، كونها كانت تعتمد تقنية متنوعة ومواد مختلفة، في صياغة إيقاعات موسيقا الشكل، وموسيقا الظلال، باحثة عن رحابة المساحة الشاعرية، التي تعطي اللون مداه الإيقاعي، الذي يطرب العين ويحقق عناصر الدهشة.
ولقد ركزت في مجمل تأملاتها الفنية على أن تكون مجددة داخل معطيات الحياة وأمينة لها، وكانت تبحث عن صياغة فنية معاصرة، وعلى هذا كانت من الفنانات اللواتي عشن الفن من أجل الفن، وكانت إحدى المساهمات، في نهضة الفن التشكيلي السوري، وفي تحويل اللوحة إلى حالة ثقافية وجمالية.
هكذا أصبحت مساحات الورود والزهور في لوحاتها، مدخلاً لاقتناص الشاعرية اللونية والذهاب أبعد من الإشارات أو المظاهر الخارجية، وبالتالي الوصول إلى الصياغة الفنية في اتجاهاتها التعبيرية المنطلقة من الواقع لقطف روح المشهد بمنظور مغاير لما تراه العين في الأبعاد الثلاثة، واللجوء أحياناً إلى رسم المشهد من نقطة قريبة، وكل ذلك عمل على إلغاء الثرثرة التشكيلية، لصالح إظهار المزيد من الاختصار والتبسيط وإبراز الطابع الغنائي، والأخذ بعين الاعتبار الاتجاه الأسلوبي الذي أعطاها استقلالية وخصوصية وشاعرية بصرية.
والانفتاح على ألوان الورود والزهور المحلية، أثمر في لوحاتها صياغة فنية حديثة، حملت نبض الرهافة والأناقة والشاعرية، وأكدت ملامح إسقاط الذات، وعرفتنا على إمكانياتها في تحريك إيقاعات ظلال وأنوار العناصر، الحاملة فسحة من شفافية تدرج قطف الإحساس، وصولاً إلى الوهج المتدرج في مساحة البياض، الذي يظهر تعشقها للنور وللشفافية اللونية المتتابعة في مساحة اللوحة.
ونهجها الفني المتواصل منذ عقود، دون توقف أو انقطاع، شكل حلقة لا تنفصل عن تاريخ الفن السوري والعربي، كما قدمت في مراحل سابقة مواضيع الوجوه والعناصر الانسانية والطيور والأحصنة والعمارة القديمة وغيرها، وساهمت بالتالي في إيجاد تنويعات لعناصر تشكيلية إيقاعية واقعية ومفترضة في عالمها البصري المتميز، هي التي نشأت في أسرة فنية، وتفتحت عيناها على لوحات والدها الفنان الرائد محمود جلال، أحد أبرز أعلام النحت والرسم الواقعي، والذي تميز بنصبه، المرتبط بالعامل والفلاح والعناصر الوطنية، كما خاض شقيقها الراحل خالد جلال غمار تجربة نحتية حديثة، تبقى شاهدة على عشقه للفن والعمل التشكيلي الفراغي في تنويعاته وتوجهاته المختلفة.
ولوحاتها تفتح باب النقاش أو الحوار الثقافي المفيد، كونها كانت تجسد الزهور الشامية في كل أشكالها وألوانها وعناصرها وبرؤى حلمية شفافة تلتقي مع تطلعات الحداثة والمعاصرة، وهي من خلال تعاملها اليومي، مع تقنيات اللون المتنوعة في أعمالها طرحت بعض القيم التعبيرية وثيقة الصلة بتأملات فنون العصر، على الأقل في تركيزها لإظهار إشراقة وشاعرية النور المتدفق من بياض الورقة الخام، التي تصبح أحياناً داخلة في إيقاعات التشكيل والتلوين .
فقد كشفت مائياتها عن مقدرة في ترويض إيقاعات المساحة الشاعرية وتجييرها، وإبراز أناقة وشفافية إشعاعات اللون المحلي، القادم من تأملات امتداد الزهور والورود، كما يمكن أن نراها في حديقة أو بستان، وبعيداً كل البعد عن النمط التقليدي في تجسيد الزهور.
ولقد تمسكت بالحرية التعبيرية وعاودت الرسم المائي والأكريليك، ثم أضفت فوق المساحات الشفافة، تهشيرات الباستيل الطبشوري، التي تأتي عمودية أو مائلة في أكثر الأحيان، وبعيدة كل البعد عن الجماليات الخارجية، كونها تتجه نحو تفعيل الحوار الذاتي أو اللغة التعبيرية الداخلية، الشيء الذي يعطي اللوحة مفهوماً آخر وواقعية جديدة.
حيث بدت شاعرية وشفافية اللون أشبه بواحة ورود وزهور، وأضحى الغناء اللوني المتتابع في إطار لوحاتها أشبه بنوتات موسيقية بصرية لمسيرتها الفنية الطويلة، وما عصف بها من تغييرات وتبدلات وتحولات وكشوفات وانفعالات.
ومن أهم صفاتها أن لوحاتها تمحو الخطوط بين العناصر، فاللون هو الذي يحدد العناصر، وبذلك حققت في تطلعها وتجديدها حالات التواصل الحي والتناغم المطلق مع الأطروحات التحديثية لتعبيرية الأشكال وصولاً إلى التبسيط التعبيري، الذي لا تغيب عنه إشارات وإيحاءات الواقع.
التالي