النقد في شتى المجالات الإبداعية هو آخر ما ظهر للوجود، وهو لايتوفر بشكله المثالي، إلا في المجتمعات الراقية، وثمة اعتقاد خاطئ ومتوارث، ومفاده أن النقد يعني القدرة على الإشارة الى مواقع القوة والضعف في العمل الفني، وهذه النظرة التقليدية والضيقة والمحدودة والمؤطرة أساءت الى النقد والنقاد، وقوضت أو حدت من قوته وفعاليته وحضوره، وأوصلتنا في نهاية المطاف إلى المزيد من التعقيد والتقوقع والالتباس والجهل والاستمرار في إطلاق العبارات الجاهزة والمستهلكة والبائدة، والتي يتحدث أصحابها عن غياب النقد، دون أن تتوفر لديهم القدرة في حدودها الدنيا للإحاطة بماهية النقد ووظائفه ودوره في تغذية الحساسية البصرية والروحية، والوصول به إلى مرتبة الإيحاء.
وهذا التعريف الضيق والتعسفي للنقد مرتبط قبل أي شيء آخر بنظرة عامة خاطئة، كرستها أقوال وكتابات بعض الهواة والأدعياء والمتطفلين، والذين لا يستطيعون رؤية أبعد من انوفهم، فيتحدثون مثلاً عن النقد الأكاديمي، متجاهلين بأنه لايزال في برجه العاجي، وليس له أي فعالية، إلا في حالات استثنائية ونادرة، وبأن النقد الفاعل هو المؤثر والحاضر والمتفاعل مع الحراك الفني والثقافي، وبأن الفرنسي أندريه مالرو ( أحد أبرز نقاد الفن في هذا العصر) لم يكن أكاديمياً.
ولهذا وجدت من الضروري تجاوز هذه النظرة الضيقة للنقد، والإشارة إلى أن النقد الجاد في تفرعاته وتشعباته وعناصره، ليس له ضفاف أو فواصل أو حدود، فهناك النقد التعريفي، ولو كان غير موجود، كما يدعون، لكنا في صحراء ثقافية، وهناك النقد التصويبي وهو موجود أيضاً، فالصحفي الذي يقص وينسخ ويلصق يكرس الأخطاء والمغالطات، ثم يأتي الناقد فيصوبها، وهناك النقد التحليلي التشكيلي، ولولا وجوده لما استطعنا التمييز بين من يكتب نقداً عاماً، وبين من يضع العمل الفني في دائرة الضوء النقدي والتشريحي، ويدخل في جزئياته ويكتب عن خصوصيات كل تجربة على حدة، وهناك النقد المقارن، والنقد التفكيكي والتركيبي والاحتمالي والافتراضي وعشرات التفرعات النقدية الأخرى، وصولاً إلى النقد التخريبي أو الهدام والموجود بشكل مخيف على معظم صفحات التواصل، حتى أن عندنا أشباه صحفيين ودخلاء وادعياء، متخصصين في خلط الأوراق، عن قصد بهدف تهميش النقاد الجادين و الناجحين عموماً، وتحييدهم وإزاحتهم وتهميشهم، ومحاربتهم بشكل علني، وخلاصة القول: إن الفن مؤسس على حاسة النقد، الذي وضع الأطر النهائية للمدارس الفنية القديمة والحديثة، فالفنان يرسم وينحت والمؤرخ يوثق والناقد يصنف ويصوب الأخطاء والمغالطات.