في مجلة شهرية تصدر في برلين عام 1783 نشر يوهان فريدريك تسولنر وهو راهب مسيحي مقالاً يتحدث فيه عن الزواج المدني ودافع فيه عن عقد الزواج في الكنيسة، ورأى في ذلك مصلحة للدولة، ولكنه هاجم في الوقت نفسه الخلط وسوء الفهم الذي خالج الناس عن مفهوم التنوير ذلك المفهوم الذي ظهر جديداً في ساحة السجال الثقافي وطرح سؤالاً وأجاب عليه: ما التنوير؟ هذا السؤال الذي يعادل تقريباً في أهميته ما الحقيقة؟ ويعترف بأنه لم يصل إلى جواب عنه، ولكنه كان سؤال مثمر في مجال الفلسفة حيث جاء الجواب من فيلسوف آخر هو امانويل كانت الفيلسوف الألماني المعروف الذي نشر مقالاً في نفس الدورية الشهرية المشار إليها، ودفع بالتعريف التالي للتنوير كما يراه على أنه: تحرر الفرد من الوصاية التي جلبها لنفسه والوصاية هي عدم قدرة الفرد على استخدام فهمه الخاص دون توجيه من الآخر وليس القصور العقلي سبباً في جلب الوصاية بل السبب في جلبها هو انعدام الأقدام والشجاعة على استخدامه والمقصود بذلك استخدام العقل دون توجيه من الآخر ويتابع كانت ولوجه المفهوم بقوله تشجع لتعلم ولتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك الخاص.
والواضح فيما يقوله كانت أنه يعتبر أن الكسل والجبن والخوف والتردد وانعدام المبادرة هي الأسباب الأساسية لبقاء شريحة كبيرة من الناس والمجتمع على وجه العموم قاصرة عن التعبير عن ذاتها وإمكاناتها لجهة خضوعها لقوى أخرى اجتماعية ودينية وسياسية علماً أن الطبيعة قد حررتهم إلى حد ما من أي وصاية أو خوف خارجي، والكسل والجبن هما أيضاً سبب في سهولة أن ينصب الآخرون أنفسهم أوصياء على هذه الشرائح المجتمعية الواسعة والقادرة.
فمن السهل أن يكون المرء قاصراً حين يتواجد أو يتوافر من يفكر بدلاً عنه أو يؤنبه ضميره بدلاً منه فلا حاجة لي أن أجهد نفسي ولا أحتاج لأن أفكر ما دمت أستطيع دفع الثمن فسيقوم الآخرون بهذه المهمة الشاقة من وجهة نظري!!! ومن أجلي وهؤلاء الأوصياء أخذوا على عاتقهم جعل غالبية البشر يعتقدون أن الخطوة التي تؤدي إلى النضج خطيرة جداً بالإضافة إلى كونها صعبة فبعد جعل الأوصياء قطيعهم المستأنس غبياً وحرصوا على أن هذه المخلوقات العجيبة (الوديعة ) لن تتخذ أي خطوة دون الزمام الذي ربطوا به أو الأدق الذي ربطوا أو قيدوا أنفسهم به فقد بين الأوصياء لهذا( القطيع )المخاطر التي تهددهم إذا ما حاولوا المسير بمفردهم أو وفق إرادتهم الحرة، ولكن في (الحقيقة الغائبة عذراً من فرج فودة) إن هذه المخاطر ليست جسيمة، فبعد أن يتحرر البشر من سلطة أو لنقل تسلط هؤلاء الأوصياء وبعد التعثر عدة مرات ربما سيتعلمون المشي وحدهم في النهاية. لكن المشكلة أن مثالا واحداً لهكذا فشل أو تعثر قد يحصل ربما سيرهب بعض البشر ويثبط عزائمهم ويمنعهم من معاودة المحاولة مرة بعد أخرى.
وبالعودة للواقع فإنه من الصعب جداً على الفرد أن يتخلص من الوصاية والسيطرة النفسية أو لنقل الاستعمار النفسي والمعنوي وشلل الإرادة التي أصبحت عند كثيرين بمثابة طبع أو سجية متأصلة في عمق لا وعيه، بل ربما صار يهواها ويراها حاجة لأنه أصبح غير قادر على استخدام عقله لأنه حرم من المحاولة قبل ذلك فالتشريعات والقوانين اللتي وضعت من أجل استثمار عقلاني لمواهب الفرد الطبيعية أو ربما من أجل انتهاكها وتحجيمها وشلها قد تجلب له وصاية دائمة، لقد أصبحت الجماعة بهذا المعنى تعيش حالة تنويم مغناطيسي جماعي والأكثر عجباً أنه حتى قيض لفرد أن يخرج من ذلك الصندوق والمثال للفيلسوف الألماني هيغل، فإنك ستجده يقفز بلا ثقة حتى فوق أضيق الحفر، لأنه لم يكن قد اعتاد أو تعود التحرك بحرية ولهذا السبب فلن تجد إلا أفراداً قليلين قد نجحوا بجهدهم العقلي الخاص من الخروج من تلك الشرنقة أو تلك الحفرة التي زادوها حفراً بدل الخروج منها، ولكن من الممكن حتماً لعامة الجمهور أن ينوروا أنفسهم عندما يتمتعون بالحرية أن يقوموا بذلك الفعل الضروري والحاسم وسينشرون من حولهم روح تقدير عقلي لقيمة الإنسان وقيمة الحرية وقيمة استعداد الإنسان أن يفكر اعتماداً على نفسه وقدراته العقلية.
لهذا لا يمكن لجمهور أن يبلغ التنوير وهنا الفكرة الأساسية إلا بتأن، فالثورة قد تطيح بالاستبداد الشخصي وبالاضطهاد المتعطش للمصالح المادية والسلطة ولكن لا يمكن أن تؤدي أي ثورة فكرية إلى إصلاح حقيقي إلا بتغيير نمط التفكير والذهنية وإن لم تنجح في تحقيق ذلك فستؤدي فقط إلى استخدام أحكام مسبقة جديدة مثلما كانت تستخدم الأحكام المسبقة القديمة كموجه للأغلبية التي لا تفكر أي إعادة إنتاج ما سبق؟ فالمشكلة في جوهرها في البنية العقلية والذهنية المسيطرة في المجتمع وليس شكل السيطرة سواء سيطرة السلطة أو الثقافة الاجتماعية المرتهنة أو سطوة المؤسسات الكنسية في عصر ما قبل عصر التنوير والنهضة الأوروبية قبل مارتن لوثر. فالتنوير بهذا المعنى لا يحتاج إلا إلى الحرية أي حرية التفكير قبل حرية التعبير وأبسط ما يمكن تسميته حرية هو أن يكون الفرد حراً في استخدام عقله الخاص علنياً وفي كل الأمور.