أثارت نصيحة هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية الأسبق التي أطلقها من دافوس موجة من ردود الفعل المتناقضة، فهو اقترح على أوكرانيا حلاً موضوعياً لإنهاء الحرب عليها وإيقاف العملية العسكرية الروسية الخاصة التي بدأت شباط الماضي ، والتي لن تتوقف إلا مع تحقيق الأهداف التي أعلنت عنها روسيا وقتها.
المقترح الذي ينصح بالتنازل الطوعي عن أراض هي الآن أوكرانية ينطلق من معرفة مسبقة بأن هذه الأراضي إنما كانت روسية في فترات ماضية سبقت الحقبة السوفياتية، وأن عودتها لروسيا تمثل عودة الحق لأصحابه، أما النصيحة التي غابت عن الإعلام فهي تلك الموجهة للإدارة الأميركية بعدم محاولة إذلال روسيا وفق تعبيره، والمقصود هنا حالة الغباء الغربية المتمثلة في الدعم العسكري والمالي لحكومة زيلينسكي لكي تستمر بمواجهة روسيا حتى آخر جندي أوكراني.
وتبقى الخلاصة متمثلة في دعوة أوكرانيا للبحث عن مخرج من خلال التفاوض المعقول وحدها، باعتبار أن الغرب لن يحرك ساكناً ولن يحرك قواته بمواجهة روسيا، مهما كان الأمر، نظراً للكلف الفظيعة التي سوف تترتب على أي مغامرة محتملة.
وفي النتيجة فإن كيسنجر يقول للرئيس زيلينسكي: إنك وحدك في الساحة وعليك أن تبحث عن حل لمشاكلك وحدك، رغم ما يبدو لك من دعم غربي، فذلك هو الوهم، وما تراه هو السراب الخادع، لذلك عليك القبول بالأمر الواقع، الذي قدم كيسنجر العجوز براهين على صوابية نظريته خلال مسيرة طويلة، ويضيف محذراً من الوقت الذي يتفلت من بين يديه، وهو لا يزيد عن شهرين فقط، لأن الأمر سيكون أكثر تعقيداً وستكون الفاتورة أكثر وأكبر إذا ما ذهبت الأوضاع إلى مواجهات أبعد قد تختفي معها الخريطة الأوكرانية بشكلها المقترح أو الحالي.
هذا مباشر الكلام من حديث النصائح الكيسنجرية فيما المبطن والمخبوء موجه للدول الأوروبية ذاتها وهي تعيش تأثير اللحظة الراهنة في العداء الأميركي لروسيا وتتماشى مع كل المطالب الأميركية متناسية أو غافلة عن حقائق التاريخ، فروسيا كانت وما زالت جزءاً أساسياً وفاعلاً من القارة الأوروبية، وهي كانت عامل استقرار وتوازن في القارة العجوز على امتداد القرون الماضية، وشكلت حالة توازن بمواجهة السلطنة العثمانية لأكثر من أربعة قرون، ولم يكن امتدادها الآسيوي يشكل عائقاً أمام عمقها الأوروبي، وهو ما سعى الرئيس فلاديمير بوتين لتكريسه ودعمه خلال العقدين الماضيين وأسهم في دعم حال الاستقرار الأوروبي بشكل كبير مقدماً الكثير من مبادرات الثقة بدءاً من التعاون العلمي والاقتصادي وليس انتهاءً بتأمين معظم احتياجات أوروبا من النفط والغاز وحتى الفحم الحجري، لكن ذلك لم يصمد أمام حالة العداء الأميركية المتأصلة لتترك أوروبا مصالحها القريبة الواضحة وتمشي خلف الوهم الأميركي.
صحيح أن النصيحة قوبلت بالرفض الأوكراني ووصف كيسنجر بأنه ما زال يعيش في القرن العشرين، ويترافق ذلك مع وهم إفشال الخطوة الروسية، ولكن الأمر لا يعدو كونه خداع الذات والتنكر للوقائع ومجريات التاريخ على السواء، فما نطق به عجوز الدبلوماسية الأميركية يمثل مخرجاً للأزمة الدولية كلها، لكنه سيكون محرجاً للإدارة الأميركية التي صاغت استراتيجية عدوانية ليس في خريطتها روسيا الاتحادية، لتجد في الواقع أن روسيا تقترب من احتلال موقع الند، فيما الند الصيني ما زال ينتظر دوره القريب.