الملحق الثقافي:
في حوار مهم مع فيليب باريو ترجمته: مروى بن مسعود ونشررته مجلة الدوحة تحدث عن اللغة بوصفها الثقافة والفكر
ما كانت الغاية من الكلام؟ للإجابة عن هذا السؤال الغامض والرائع على حدٍّ سواء، يقترح عالِم اللُّغويّات «فيليب باربو» سيناريو خاصاً ومبتكراً في كتابه «غريزة المعنى: مقال عن عصور ما قَبل التاريخ للكلام» (2021).
في ردهة ساكنة بأحد الفنادق في بوليفارد سان جيرمان التقينا بـ«فيليب باربو». قَدِمَ هذا اللُّغويّ من كيبيك، وهو يعرف باريس جيّداً بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة باريس الثامنة، التي كانت صرحاً مرموقاً في علم اللّغة في السبعينيّات. كان مهتمَّاً بما يجعل الإنسان إنساناً: اللّغة. لقد شكَّلت أصول اللّغة لغزاً كبيراً خاض فيه الباحثون باعتماد العلم الذي سمح لهم بالتكهن والتخمين وافتراض لماذا وكيف، هذه الأسئلة المركزية التي تغذِّي بحثنا عن المعنى. وهذا الموضوع تحديداً شغل «فيليب باربو» في كتابه الأخير من ثلاثة فصول، وطرح افتراضاً غير مسبوق: هل اللّغة غريزة بشرية طوَّرتها حاجتنا للمعنى؟.. في هذه المُقابلة نستطلع أفكاره حول هذا الموضوع.
في كتابك الأخير تتحدَّث عن الإدمان الفكري بالمعنى, هل هذا ما دفعك لأن تصبح لُغويّاً؟
– نعم في الواقع! لكن في ذلك الوقت، لم يحظَ المعنى بأي اهتمامٍ يُذكَر. في نهاية سنوات عملي كأستاذ، بدأ الناس يفكِّرون في شيءٍ آخر غير الأشجار والعلامات وأجزاء الرموز، حينها أصبحت مهتمَّاً بجذور اللّغة. في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مع الاكتشافات العلمية الحديثة، ظهر العديد من الكتب حول تطوُّر اللّغة عبر العصور. كنا نبحث عن لغةٍ أصلية، وقد نشر الكثير من المجلّات هذا البحث. استأثر الموضوع بجُلّ اهتماماتي، لكن لم أجد التفسير المُناسب.
أنت تتحدَّث عن لغةٍ أصلية، أسطورة بابل الشهيرة، التي تتعارض مع نظريات الظهور المتزامن والجمعي للغة في أجزاءٍ مختلفة من العالَم. أين نحن اليوم من هذه النظريات؟
– لا يزال البعض يسعى وراء اللّغة الفريدة في أسطورة بابل، بينما البعض الآخر يبحث عن أصلها في امتداد لغة الحيوانات. قبل بضع سنوات، مرضت بشدّة وعندما نُصاب بالمرض نلازم الفراش عادةً، نتأمَّل ونقرأ، كثيراً. لمدة سبع سنوات، عملت على هذا الكتاب وانتهى بي الأمر إلى تطوير شيء لا يشبه النظرية، بل كان عبارة عن سيناريو معقول وموثَّق حول أهمّ التطوُّرات ذات الصلة في مجموعة واسعة من العلوم: الأنثروبولوجيا، وعلم الوراثة، وعلم النفس، وعلم الحفريات.
أنت تربط ظهور اللّغة المنطوقة بأنواع الرئيسيات؛ الإنسان، بعد أن بدأ في الوقوف، خضع لتغييرات تشريحية ونفسية سمحت له بإصدار أصواتٍ جديدة.
– لا يمكننا الإشارة إلى تاريخ محدَّد، فالتطوُّر يستغرق آلاف السنين. لقد بدأت عصور ما قبل التاريخ للكلام منذ حوالي 2 مليون ونصف، 3 ملايين سنة، عندما تمكَّنت أنواع من الرئيسيات من الوقوف، بعد الطفرة الجينية والتغيُّرات المناخية. لقد أحدث الوضع الدائم لنوع الإنسان تغيُّرات كبيرة: صغر حجم الأنف، وتطوّر الدماغ وتغيَّرت مواقع الحنجرة والعمود الفقري. سمح تعديل الحنجرة بإصدار أصوات جديدة لا تتناسب مع لغتهم الحيوانية: التنبيه والصيد والتزاوج. ربما بقطعة من الحجر تمكَّن أحد أعضاء المجموعة من جرح نفسه والصراخ مجدَّداً. هذه الصرخة الجديدة نبهتهم إلى قدرتهم الخطابية والمعنى المُحتمَل الذي يمكن أن تحمله الصرخة.
في كتابك تشرح أن التغييرات التشريحية سمحت بظهور الكلام، تماماً كما أن الوعي بمهارات التحدُّث قد سمح بتطوُّر الذاكرة. إذن فالنوعُ قد اختبر تأثيراً مزدوجاً للجسدي على النفسي، والنفسي على الجسدي؟
– بالضبط! المعنى تحديداً هو الذي ساهم في نمو الدماغ، وكذلك تطوُّر هذا النوع. بفضل تطوُّر النطق الصوتي، بدأ التخزين في الذاكرة على المُستوى العصبي. لم يكن دماغ الرئيسيات المُتطوِّرة متطوِّراً جدّاً، فقد كان طوله (700 مم2). ظهر تدريب للذاكرة بالتزامن مع تطوُّر النطق. تطلب الأمر ذاكرة أكبر، ثمَّ مساحة أكبر، وبالتالي زيادة سعة الدماغ.
تُرجع هشاشة المجموعات إلى الظروف المناخية القاسية. لذلك من الممكن أن طوفاناً قد جرف اللّغة مع مخترعيها. إذا كانت اللّغة قد تطوَّرت على أي حال، ألا يمكن أن نفترض أن اللّغة إمّا هي تطوُّر جيني تمَّ ترميزه في جيناتنا أثناء التطوُّر، وإما أنها ظهرت في الوقت نفسه على الكرة الأرضية كتطوُّر طبيعي للغة الحيوان؟
– هذا سؤال معقَّد للغاية. لا أعتقد أن اللّغة قد تشكَّلت في مكانٍ واحد في شرق إفريقيا منذ ملايين السنين، وبالتأكيد كان هناك نمط التطوُّر نفسه في مكانٍ آخر. ومع ذلك، أعتقد أن هذه اللّغة ليست امتداداً لغريزة الحيوان. لا يوجد كائن حي واحد لا يتواصل.
النقطة المُشتركة الوحيدة بين لغة الحيوان ولغة الإنسان هي التواصل تحديداً. الآن، هل اللّغة تطوَّرت وأصبحت جزءاً من جيناتنا؟ كنا نعتقد ذلك في الخمسينيات من القرن الماضي. اعتبر بعض الباحثين الكلام على أنه عضوٌ وراثي، لكن من الناحية العلمية ليست لدينا جينات لُغويّة. بينما يؤمن البعض الآخر بفطرة اللّغة مثل (تشومسكي)، لكني لا أوافقه الرأي.
وإلّا فإنّ الأطفال حديثي الولادة يمكنهم التحدُّث عن أنفسهم، أليس كذلك؟
– بالضبط، وحتى لو لم نجد اللّغة في الجينات، فهي موجودة في الطريقة التي يعمل بها الدماغ. هذا يظل لغزاً رغم أننا نعلم أن بعض الألحان القشرية تنشط فيما بينها أثناء الكلام. الطفل في الرحم قادر على التمييز بين اللّغة الفرنسية واللّغة الأجنبية، ولكن القول، من هذا المنطلق، إنه مجهَّز لهذا الغرض وراثياً، لا أوافقه. أعتقد أن هذه العملية تمثِّل جزءاً لا يتجزَّأ من مليوني ونصف عام من التطوير.
هل عَزلتنا اللّغة عن غريزتنا؟
– اللّغة ليست غريزة بحكم التعريف. نحن قادرون على تكوين عدد لا حصر له من الجمل، وترجمة عدد لا حصر له من الأفكار شفهياً. لقد عُزلنا تماماً عن عالَم الحيوان وهذا هو المعيار الحقيقي الوحيد الذي يفصلنا عن هذا الأخير، وبالنسبة لبقية الأشياء فيمكننا دائماً العثور على روابط قويّة جدّاً.
لدينا اليوم لغةٌ غنيّة جدّاً ومتطوِّرة باستمرار. هل تعتقد أنه بعد 300 عام ستكون لغتنا بعيدة كلّ البُعد عن اللّغة التي نتحدَّث بها اليوم؟
– كلّ لغة ستتطوَّر في نطقها ومفرداتها. التكنولوجيا تغيِّر اللّغة. من ناحيةٍ أخرى، سجلنا اللُّغويّ اليوم يتضمَّن مفردات إنجليزية أكثر ممّا كان قبل عشرين عاماً، وبالتأكيد سنستخدم المزيد من المُفردات في غضون عشر سنوات من الآن.
لكن اللّغة العامية لن تتأثَّر إلّا قليلاً. ستبقى الشوكة شوكة. من المُحتمل أن تتطوَّر المُفردات في قطاع الإعلان والأعمال والدراسات، وما إلى ذلك. مفردات على غرار: (coach, sale manager – مدير مبيعات، مدرب،) متداوَلة كثيراً اليوم. في كيبيك، على سبيل المثال، يستخدم الشباب أصواتاً جديدة ويغيِّرون نغمة نطقهم. بدأت اللّغة الإنجليزية في الاختراق، وبالتالي قد تصبح القاعدة في المُستقبل. لكن إذا سألتني هل ستختفي الفرنسية بعد 300 عام؟ لا. الكلمة المكتوبة هي حصن اللّغة. طالما أن تراكيب الجملة هي نفسها، سنتحدَّث الفرنسية.
هل تعتقد، كما هو الحال مع العربيّة المنطوقة والعربيّة الأدبيّة، يمكن أن يكون لدينا هذا التمييز في الفرنسية؟
– ليس من المُستبعَد على الإطلاق أن تصبح الفرنسية المكتوبة أكثر عزلة وألّا يتمُّ التحدُّث بها كما هو الحال اليوم. لكن هل ستصبح الفرنسية التي نتحدَّث بها اليوم في باريس لهجة؟ لا، الناس يمكنهم القراءة وهم متعلِّمون. عملية محو اللّغة سوف تستغرق مئات ومئات السنين.
أم تغييرات هيكلية مهمَّة للغاية، انهيار أنظمة معيَّنة جعلت اللّغة القديمة بالية، لأنها أكثر ملاءمة؟
– نعم بالضبط. أو كذلك الغزوات التي من شأنها أن تنتج مزيجاً من اللّغات والتراكيب اللُّغويّة، ولكن مع دولنا القومية والقواعد التي تتحكَّم في السلوك الاجتماعي على نطاقٍ كوكبي، هناك فرصة ضئيلة لحدوث ذلك. ستبقى اللّغات بالتأكيد على ما هي عليه. ومع ذلك، ربما في غضون 100 عام، سيحل الصينيّون محلّ الأميركيّين.
العدد: 1099 تاريخ: 14 – 6 – 2022