الثورة- أديب مخزوم:
تحتفي الأوساط الفنية والثقافية، بمرور مئة سنة على ولادة الفنان الرائد فاتح المدرس ( 1922- 1999)، وبحلول الذكرى السنوية الثالثة والعشرين لرحيله، في 28 حزيران 2022 ، هو الذي تركت تجربته الفنية التي امتدت طوال أكثر من نصف قرن بصمات مباشرة وواضحة، على تجارب عدد كبير من الفنانين من مختلف الأجيال والمراحل التي جاءت من بعده ، ولقد كان أحد أبرز الفنانين الذين نقلوا الفن منذ اواخر الأربعينات ، من التسجيلية والواقعية التقليدية إلى ضفاف الحداثة التشكيلية التعبيرية المفعمة بالعفوية والتلقائية والحساسية الطفولية .
ولقد كان على امتداد أكثر من خمسين عاماً واحداً ممن أغنوا التجربة الفنية المتعاملة مع التراث، بأبجدية أصيلة تحمل نكهة عربية مميزة، حيث اهتم منذ مطلع نهاية الأربعينات ومطلع الخمسينات باستلهام معطيات التاريخ الحضاري السوري المتوفر في المتاحف والأمكنة المستعادة ،فمدلولات التاريخ السوري القديم والإشارات المحلية، تطل في لوحاته كهاجس رئيسي، وهي تفسر في النهاية خطه التشكيلي في إيجاد علاقات تاريخية وبيئية لعلاقة الماضي بالحاضر، وبالحداثة المتداولة في أكثر من عاصمة فنية. والأشكال المبسطة في لوحاته على شكل خطوط عفوية دائرية أو متوازية أو متقاطعة في اتجاهاتها الأفقية والشاقولية تشبه إلى حد بعيد، لغة التعبير عن بعض الإشارات السحرية الميثولوجية، التي كانت سائدة في العصور القديمة (فالدائرة المشعة تؤدي دورها كرمز للشمس والخطوط المتوازية رمز للحياة المتدفقة) .
وكان يقوم بتنويع المفردات التشكيلية ، ضمن هاجس إبراز التضاد بين الكثافة والوهج، وبين السكون والحركة، فاللمسة اللونية المتحررة في لوحاته هي منطلق للارتباط بتيارات التشكيل العالمي المعاصر، بينما تظهر رموز التاريخ والفولكلور السوري كأنها مشروع دعوة للعودة إلى الينابيع الحضارية الحية التي اكتسبتها الأرض السورية عبر آلاف السنين، فالصفة الغالبة على لوحاته تكمن في البحث عن حداثة لتشكيل يتواصل مع التراث والبيئة والحياة .
ولقد كان فناننا الراحل معلماً كبيراً في الخطوط والألوان والمؤثرات البصرية، وفي حدود سامية من مفاهيم علم الجمال الحديث فهو – كما كان يقول – (يرى أن خطاً واحداً يحمل حساسية أجمل من لوحة كاملة).
واللوحة عنده هي نسيج مبسط من تلك الوحدات التاريخية القديمة ،التي كان يدمجها بعناصر محلية من طبيعة سهول وقرى الشمال السوري التي شهدت ولادته وفتوته، وهذا يعني أن تجربته ارتبطت منذ بداياتها بهاجس محلي وتطلع حيوي نحو إشعاعات اللون المحلي فهو – على سبيل المثال – كان يعشق اللون الأحمر، والأحمر وسيلة من وسائله للحصول على الوهج المتدفق لبريق النور الساطع في سهول الشمال السوري.
ولا يمكن فصل لوحات فاتح المدرس عن تداعياته وهواجسه الطفولية، حيث كان يحرر الأشكال شيئاً فشيئاً، ويدخل في تقنية صياغة الألوان العفوية والرؤية الارتجالية للوصول إلى الصياغة التلقائية ،التي تفسر في النهاية معالم هذا الهاجس اللوني المحلي الذي يسكن خطواته، بقدر ما يذهب إلى ترجمة انفعالاته وعواطفه وتوجهه التعبيري الطفولي.
و كمجمل الفنانين الكبار آثر الوحدة والحرية والتميز والبحث عن أسلوب خاص، هو عبارة عن نسيج مختصر من الإشارات التاريخية ،المتداخلة مع وجه المرأة في أحيان كثيرة ، وواقع الريف السوري واللون البيئوي المحلي.
هكذا أعاد قراءة التراث قراءة معاصرة، وركز في تأملاته الفنية كافة على أن يكون مجدداً داخل معطيات الحياة وأميناً لها، وأعلن عن ولادة لوحة حديثة بروح محلية، حيث كان سباقاً في اعتماد اللمسات اللونية الأكثر عفوية في تلك المرحلة، والتي شكلت ثورة حقيقية على المفاهيم التشكيلية التي كانت سائدة عندنا في تجارب رفاقه الفنانين.
وكان فناننا الراحل يكشف في ممارسته التشكيلية عن علاقته برموز تأملات الطبيعة التي تطل في لوحاته كأنغام حياتية أو كضرورة حتمية تستعيد ذكرياته في القرى السورية الشمالية، حيث كل شيء حار وبراق ومتوهج، إنه اللون المشع المستمد من نور ولهب الشمس، أما الفلاحات فهن رمز الأرض والقرية، هن القوة الأنثوية التي تعني الطريق إلى الحقول المتلاحمة ما بين الجبال والوديان.